أثر الصدام العالمي في الخليج العربي

مهنا الحبيل

22/2/2022

لم تكن معالم الصراع الغربي الجديد حول توقع زحف موسكو العسكري على أوكرانيا، هو الأوّل في معالم التشكّل الجديد للقوى الدولية، ولكن التغيّرات في انسحاب أو تراجع دور الغرب الأوربي والأمريكي في مناطق الأطراف، بدأ تدريجياً منذ ذروة العنفوان التي برزت في خطاب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بعد حرب الخليج الثانية، 1990-1991، بعد انسحاب الغزو العراقي من الكويت.

فمع مُضّي ذلك العقد المهم من تاريخ العالم الحديث العسكري، أصبحت واشنطن على عمليات القاعدة في تفجيرات سبتمبر 2001، ومرة أخرى خرج جورج بوش الابن محتفياً باحتلال العراق وأفغانستان، لكن ذلك النصر رغم وحشيته على الإنسان، كمقابل أشد سوءً بمراحل من حصيلة إرهاب القاعدة، تطور سلبياً على قوة الحضور الأمريكي واستنزفها، ولذلك لم يتغير الموقف بين ترمب اليميني المتطرف وبايدن الديمقراطي المنفتح، في قرار الانسحاب الكبير.

وفي إعادة تموضع القوات الأمريكية في العالم، والتراجع أمام طالبان وإيران، والدخول في لعبة جديدة مع الطرفين تتكرس لصالح اعتراف قوي بطهران، وتدفع طالبان إلى مرحلة صراعات أخرى، لم تعد واشنطن التي أمّنت قواتها طرفاً فيها، ولكن سياسات طالبان العشوائية وترصد الإقليم هو من يحرك رياحها.

وما يهم واشنطن هنا، هو الخروج بأقل قدرٍ من الخسائر، والمحافظة على أكبر مساحةٍ من النفوذ، لكن دون تعريض القوات الأمريكية والأوربية للمزيد من الخسائر البشرية، رغم أن ميزانية تلك الحروب غطت خزائن الخليج العربي أكبر نفقاتها، ومن سخرية الزمن أن حصيلة هذه النفقات أستفاد منها الإيرانيون أيضاً، وعزز النفوذ المتزايد لهم في المنطقة، عبر الجسر الأمريكي.

لقد تتابعت الرسائل من أوروبا في تقدير الموقف الجديد، من تراجع الأمريكيين وصولاً إلى تشكيل قوات اوربية مستقلة عن الناتو وحلف واشنطن، لتأمين مصالح أوروبا وحدودها، في معزل عن التقلبات أو المراجعات الأمريكية، ورغم أن موقف الروس المهدد لأوكرانيا، قد وحّد جبهة الناتو من جديد، فأوكرانيا ليست تركيا، ولكنها من جسم تاريخي ينتمي للرابط المسيحي والقومي مع أوكرانيا، يفرض هذه الانتفاضة الجديدة.

ومع ذلك فهي انتفاضة تسعى بوضوح إلى احتواء الموقف الروسي قبل الصدام، والدفع بميزان الرعب لصالح الناتو، والذي يصر بوتين على تجاهله وعلى بعث رسائل معاكسة له، قد تكون مستفزة لحلف الناتو وللبيت الأبيض بالذات، فالقلق الغربي من توسع الحرب وعدم مقدرة الناتو على ضبطها، أو خسارة أوكرانيا بعد حرب عسكرية صعبة مكلفة، سيُعزز التنين الصيني الذي يراقب المشهد من أسواره البعيدة القريبة، وفي المحصلة النهائية هناك ميلاد جديد لموازين القوى العالمية، مختلفٌ كلياً عن عهود الحرب البادرة وما بعدها.

ولعل كل دول الخليج العربي لاحظت معيار التغيّر الواسع، الذي سيؤثّر على مراهنتها القديمة المرتبكة بضمان الأمن القومي لهم عبر الغطاء الأمريكي، وسعت إلى تأسيس علاقات هادئة مع بكين وموسكو الجديدة، تُحيّد أقطارها في هذا الصراع دون أن تتورط فيه، لكن المدار الأمريكي الذي ارتهنت به دول الخليج العربي، سيتأثر بالتغيرات المستقبلية والضمان الأمني لها.

بالطبع هناك فوارق كبيرة بين دول الخليج العربي، فعُمان حافظت على قوتها الهادئة وحيدّت سياستها منذ زمن طويل، في حين كانت السعودية تسعى دوماً لاستثمار ضخامة جغرافيتها السياسية الواسعة، التي تضم أقاليم عربية متعددة، ولكن قوتها العسكرية تعرضت لاختبار صعب غير موفق لها في حرب اليمن، فضلاً عن إشكاليات الصراع الفكرية الأخيرة، مع العالم الإسلامي والوطن العربي.

ولقد سعت الإمارات لخلق وجود نوعي يدفع بها، إلى أن تكون دولة مركزية في حروب المنطقة وصراعاتها، كحليف فكري استراتيجي مع الغرب، غير أن المشهد الأخير في ارتدادات هذه الحروب عليها، وبالذات المواجهة مع الذراع الإيراني في اليمن، أسقط تلك المحاولة، وخاصة في ظل حرص ابوظبي على عدم نقل التوتر مع الذراع الحوثي لطهران، إلى العلاقة المباشرة مع ايران ذات الحدود البحرية المشتركة، والقوة الاقتصادية في سوق الإمارات والنفوذ الجيوسياسي.

أما قطر فقد أنجزت حقيبة تحالفات دولية وإقليمية، فمع تثبيت العلاقة الإستراتيجية مع تركيا، تقدم ملف التحالف الذي أقره الأمريكيون مع الدوحة، لتحقيق مساحة مهمة لواشنطن من خلال حيوية الدور القطري وجسوره مع مناطق الصراع، فبرزت الدوحة كنموذج عقلاني للمركز الغربي الجديد، ولكن موقعها الجغرافي والديمغرافي يظل ذو حساسية عالية.

في حين تضعضع موقف البحرين التي تدفع ايران لحضور أكبر للمرجعية الطائفية فيها، على غرار العراق، وعينها تمتد إلى إقليم الاحساء (الشرق السعودي) المفصل الأخير لمشروعها، وأما الكويت فالحفاظ على موقع السياسة القديم، يجعلها أكثر حذراً من أي تغيير يذكر، ولعل حالتها الحسّاسة في الحسابات الحدودية، عطّل أي محاولة تطوير لجيوسياسيتها للأمن القومي، وكأنها تتمثل بمقولة خليجية قديمة (لا تحرك تبلش).

ونلاحظ هنا أبعاد أزمات حقوقية وسياسية في كل دول الخليج، ربما توارت في عُمان وتراجعت في الكويت بسبب العفو الأخير، لكن بالجملة تتراجع المشاركة الشعبية والإصلاح السياسي في جميع هذه الدول، هنا برز في البحرين والإمارات على سبيل المثال التقدم المتهور نحو تل أبيب، لصناعة تحالف فارق في ظل الصدام الدولي، وهذا وهم لن يحقق أي أمن للدولتين، وحتى من يسعى لاسترضاء إسرائيل سراً من بقية الدول، فهو لن يجني من الكَرْمِ إلا الشوك.

فطبيعة التحديات التي ستفرضها التغيرات في الصدام العالمي، أو التقدم الأكثر لبكين وموسكو، وخاصة في مرحلة الفوضى الانتقالية التي قد يعيشها العالم، لا يمكن لدولة الاحتلال إلا أن تحافظ على توازنها القوي مع الغرب، في حين تلعب بمصالحها في أحلام الخليج العربي التائهة، أما زحف الرمال وسقوط الدول والأنظمة فيفرضه مدار أقوى من هيكل الصهاينة.