مهنا الحبيل

8/11/2022

نحن على مقربة من انطلاق مونديال قطر 2022، وتلفت النظر اللافتات التي نشرتها جهات التنظيم، وحملت مبادئ الإسلام الإنسانية التي جاءت في نصّ الكتاب العزيز، أو في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. يأتي هذا بعد ما نظنه هزيمة لمشروع لوبيات الضغط غير الأخلاقي، على قطر، والذي تزامن مع دعمٍ من الجماهير العربية، للموقف والتصريحات القطرية، الرافضة تدخل الغرب لفرض سلوكيات المثلية وغيرها، وقهر المسلمين عليها، واستثمار كأس العالم في إخضاع الشرق للكولونيالية الجديدة. غير أن تقاطر الوفود أو الشخصيات التي تمثل ما يسمّى التنوع الثقافي مستمرٌّ على الدوحة، أو تجدول زياراتها خلال موسم كأس العالم. إننا هنا نحتاج بالفعل إلى تفكيك معاني المصطلحات الجامعة، للأمم وعلى ماذا يتحدّون، فهم أمم مختلفة بالفعل، في الدين، وفي القومية، وفي الأعراق، وفي الطبائع، فما الذي يجمع بينهم إذن، هل هم أمم متحدة أم مختلفة؟
مناسبة المونديال، شئنا أم أبينا، حدث عالمي فرض سطوته على العالم، وأصبح من أهم المناسبات التي يُركّز فيها على تلاقي الأمم والشعوب والدول، وربما هو من المناسبات النادرة التي لا تزال تجمع شتات العرب، فكلما خرج منتخب منهم، رأيت الغالبية العربية تركّز على المنتخب الذي وصل إلى الأدوار التالية، أو الختامية، وهو ملحظٌ جميل في ظل تطوّر خطاب العنصريات المتعدّد والمتشظّي، الذي يضرب الخليج العربي ببعضه، ويضرب المغرب العربي الكبير ببعضه، ويضرب الجميع بالجميع. فهنا أنت تتعامل مع لوحات واقعية، من حيث جذب المشاهدين العرب، وتجمّعهم معاً، أو من خلال جمع الأمم الأخرى كالأمم الأفريقية، المتداخلة معنا، أو الأمم الآسيوية المشتركة معنا كذلك، فكيف تُصاغ قاعدة التعامل والجسور مع هذه الأمم، المتحدة في المناسبة الكروية، المختلفة في أفكارها، وهم اليوم في ضيافة العرب الذين تمثلهم قطر.
دعونا ابتداء نُذكّر بسوق الرأسمالية المستثمر لهذه اللعبة، وغيرها من الألعاب الأخرى، فهي قضية لا تسقط بالتقادم وبالواقع، ويظل حجم ما ينفق في سوق اللعبة أرقاماً خيالية في ظل الخلل الكبير، بين عالم المحرومين وعالم الرياضيين، والذي أيضاً يشرف عليه وتستثمره القوة الرأسمالية الغربية في العالم، لكن الحالة الرياضية المستقطبة للشعوب بكثافة ربطت الشعوب اليوم في كل العالم بعجلة أحداثها. ونلاحظ هنا أنهُ حتى قضايا الدفاع القيمي والتعبير الحقوقي، بات الميدان الأخضر أكبر وأسرع وصولاً من منابر دينية أو سياسية محتشدة، فكيف يجري التعامل الواقعي مع كرنفالاتها وكيف تستثمر؟

هناك محاولات شرسة للمركز الغربي لوضع المونديال العالمي تحت أدوات التبشير بأفكار الغرب، وسلوكه السياسي والاجتماعي، رغم أن هذه المنظومات من السلوكيات والأفكار لا تتفق مع الغالبية الساحقة من أمم الأرض، فهنا مساحة مهمة لتفعيل المشتركات بين الأمم المختلفة، لتتحول إلى أمم متحدة، نحتاج فيها إلى أن نوضح للعالم أن لدى الوطن العربي عبر الرسالة الإسلامية مفهومه المختلف، الأعدل أخلاقياً.
نحتاج اليوم إلى تفعيل المسار التشريعي الأخلاقي الذي يغيب، مع الأسف الشديد، في كثيرٍ من الخطاب الديني، وهو أن مساحة العلاقة مع غير المسلمين واجبة بالتعاون والتعاضد لكل خيرية بين الأمم، أكانت في إطار العدالة السياسية والاجتماعية، أم في تبادل المصالح وتوزيع الثروة، أم مجرّد التعارف الذي جعله الله شريعة بين الشعوب، مسلمها وغير مسلمها.
لا أتحدّث هنا عن سياسات دول، وإن كنتُ أرجو أن تتاح لدولة قطر، المنشغلة بتأمين الحدث وسلامة مسيره اليومي، منصّة فعاليات تتقاطع مع هذه الاتجاهات القيمية والعدلية بين الأمم. أدرك هنا الإشكال الآخر الذي أصبح يهدّد علاقاتنا مع بعض الأمم، وخصوصاً مع الهند والصين لسياساتهما العدائية ضد شعوب المسلمين وضد مسلميهم، ولا أعرفُ حجم الحضور الجماهيري منهم، في المدرّجات أو أروقة المونديال، لكنني أعتقد أننا نتعامل دوماً، في أصل القاعدة الإسلامية، مع الفرد، من دون تحميله أي سياسات لطرفٍ آخر، وخصوصاً من الحكومات التنفيذية.

ولقد ضربتُ المثال بالصين والهند، لكي أوضح أن القاعدة مبدئية هنا، وليست منتقاة. وعليه، فإن بقية الأمم الأخرى، وخصوصاً في ظل الشيطنة المستمرّة للمسلمين والإسلام، التي تُجدّد منصّاتها بعض الدول الغربية، نحتاج أن نمدّ يدينا لمواطنيها الأبرياء، من منصّات الثقافة العربية الإسلامية، وأن يكون المجهر أوسع من ترضية صحافي غربي أو زائر (فاشنست)، مجاملة لرمز ترويج تقذف به سلوكيات السوق المنحطّة والشاذة، فهنا ليس لتلك المجموعات البشعة التي جعلت من غرائب السلوك القبيح إطاراً فكرياً تعدّدياً، فللتراث والمذاهب الفكرية قواعد فهم لتحديد قيم الشعوب، ولا يُقبل أن يُضمّ كل غريب كرنفالي مسيء للإنسانية إلى ثقافة التعدد. ولستُ هنا أشير إلى التعقب الشخصي لتلك النماذج التي تعبر للمناسبة، ولديها ما تُضمره من أفكار وسلوك، لكن لا تعلنه في المناسبة، وإنما قصدتُ أن مفهوم الشعوب المتحدة يكون على المشتركات، والانفتاح على المصالح، والتعامل بالحسنى، وليس للترويج الفردي لذوي الغرائب القبيحة.
إننا أيضاً نعاني من أزمات كبرى داخل وطننا العربي، ونأمل أن نستذكر في مثل هذه المناسبات مفاهيم الوحدة وأدب التعامل مع العربي الآخر، وأن يكون السلوك المتعلق بنظافة المظهر والمعنى بارزاً في المدرّجات وفي ردهات المونديال، وأن نطبق، قبل أن نردّد لغيرنا، تلك المفاهيم الإنسانية في الآداب الأخلاقية في التعامل مع البشر، واحترامهم، وفسح الطريق لهم، والإحسان للضعيف، من العاملين في المونديال، وذوي الحاجات من الجماهير، وغيرهم.
تبرز أهمية الأخلاق أيضاً عند الخسارة، وأن فوات مفهوم النصر الرياضي لا يعني مصيبة ولا نكسة، وإنما بعض ما يثور به الجمهور، من غضب وسلوك قد يؤدي ببعضهم إلى الإضرار بنفسه وبأخلاقه، هو الخسران المبين.