مهنا الحبيل
15/1/2023
لو تساءلنا عن حجم المبالغ التي تنفق لمخاطبة الغرب إعلاميا وثقافياً، على مستوى الوطن العربي، لشكلت ميزانيات ضخمة يصعب حصرها، كان بالإمكان أن يؤسِس جزء منها مدينة إعلامية ومدينة تعليمية، تنفتح على بقية العالم، وخاصة العالم الجنوبي، وتُمثّل للوطن العربي جسر علاقات وشراكة ثقافات، ومصالح اقتصادية وقوة وشائج لوجستية.
ولست هنا انكر الحقائق التي تؤكد، أن الغرب له قوة حضور أكبر وأكثر تأثيراً، كما أن استقرار المؤسسات السياسية والدستورية هي من عناصر تفوقه، رغم الفراغ الروحي الكبير، الذي تعيشه مجتمعاته، ويبحث الفرد فيه عن خلاص، مع التغول الأثيم في إسقاط الإنسانية الأخلاقية، ودفع العالم إلى إنسانوية مزيفة، لا نزال نعيش كوارثها المستمرة.
إنه من المؤلم بمكان أن تدور عجلة الزمان، ولا يزال حاضر العالم الإسلامي، متخلفاً فيما يجب فيه التفوق، وبالذات مفاهيم العدالة الاجتماعية والسياسية، التي تُضبط بها علاقات الدول والشعوب، وتحفظ الحقوق بالقوانين، وتُحمى القيم الإسلامية بتشريعات أخلاقية، تكفل منع الظلم والعنصرية، واضطهاد المرأة، ومساحة الشعب في التعبير وفي المجتمع المدني، وهي كلها وسائط نهضة لا تتعارض مع الشريعة، بل هي من قلب مقاصدها للحياة الإنسانية والكرامة الآدمية، بين الناس مسلمهم وكافرهم.
وفي أفريقيا تبرز لنا ثلاث مسارات مهمة، يجب أن نتوقف عندها، الأول هو محاولة أفريقيا السمراء الوقوف على أقدامها، وتحييد التدخلات الخارجية الكبرى، التي تلاعبت بثروات الشعوب، وأفشلت أي محاولة مستقلة، للأمم الأفريقية، رغم وجود الإتحاد الأفريقي المهم، لكن لا تزال باريس، وبقية دول الاستعمار نافذة التأثير، وتُحرّض بعض دول أفريقيا على بعضها الآخر.
واما الثاني فهو ما بعد نجاح رواندا، بعد حقبة دماء مروعة في التاريخ، تخرج منه ومن الصراع القبائلي المدمر، إلى منظومة الإنسان المتقدم، بتشريعات دستورية ونظام مجتمع مدني، أصر فيه بول كاغامه، قائد التجربة، على أن أفكاره ورؤاه وكفاحه، لم تعتمد القيم الغربية وحدها، ولكنها بحثت عن كل ارث للخير والعدالة والسلام، فاستقى منه شريعته، وخص في ذلك إرث التحاكم القبلي القديم في أفريقيا.
وهو دليل مهم على أن الإرث القبلي الذي يُفتّت ويطحن أفريقيا، عبر تفجيره صراعياً في كل زاوية منها، وهي كارثة ممتدة لدينا في الوطن العربي، هناك شق آخر في فهمه، وهو الذي تعبد الله به العالم، يُشير إلى أن القبيلة تنظيمٌ لمجتمعات الناس وبيئاتهم، لكي يتعاون الجميع على البر والتقوى، فتنهض دولهم ومجتمعاتهم، ويحيا الناس متحدون على القيم، لا على العصبيات، وتَضبِطُ كل قبيلة مسيئها، أو الجاني المتورط أو العنصري السفيه، بمفهوم النبي صلى الله عليه وسلم.
وكما جاء عنه في الأثر: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وحين تسائل الصحابة عن المغزى الذي دفع النبي صلى الله عليه وسلم لهم للانتباه، ( كيف ننصره ظالماً) نلاحظ هنا كيف وقر لدى الصحابة رفض الظلم، كفطرة بديهية رسخها القرآن، ثم أبان لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن (تحجزه وتمنعه من الظلم فذلك نصره) فتردع أخاك القبلي، أو سيد العشيرة أو الأسرة، فضلاً عن سفهائها، وتبين له ظلمه وتمنعه عملياً من التجاوز.
هنا نستحضر الأثر المعاكس لقطعية النص القرآني والبلاغ النبوي الذي تعيشه الأمة، وكيف يمارس نقيضه اليوم، وتُتخذ القبيلة للتحشيد لصالح الباطل، نلاحظ هنا أن هذه الكارثة لا تخص المسلمين وتشمل غير المسلمين، فهي ثقافة جاهلية فتاكة، تضرب القبيلة بغض النظر عن دينها، وإن بقيت روابط تتفق على التضامن لرد الظلم، أو حماية مستضعف.
لكن ما تواجهه اليوم أفريقيا، في ظاهرة توظيف القبيلة وتفتيتها، هو دلالة على هذا المأزق الإنساني، الذي أرشدنا الله كيف ننظمه، وحين خالفنا سنته عرباً وأفارقة، دخلنا في فوضى لا تنتهي، لا تنقض السلام الاجتماعي وحسب، بل تُسقط عرى الإسلام، ومن المصائب أن يستخدم خطاب الدين لدى البعض، في تثوير العصبيات أو حماية المخطئ، أو التعصب لرأي متشدد يحارب كل من يحمل غصناً للسلام والنهضة بين شعوب أفريقيا.
ولذلك انتقال افريقيا إلى دولة سلام واستقرار اجتماعي، بعقد دستوري فاعل وقوي، هو المسار الثاني الذي يكفل حمايتها من الداخل أولاً، ثم حمايتها من قوى الشر الاستعمارية، ولعبة المنظمات الإرهابية التي تذبح حلم الشباب والشعب، سواء باسم الغلو أو رعاية سرية لها من أجهزة المخابرات المتعددة، وحديثنا ممتد عن افريقيا، وعما الذي يجب علينا، لأجلها ولأجل اخوّتنا ومصالحنا معاً.