أفق السلام الكردي-التركي
مهنا الحبيل
أياً كانت القراءات المختلفة، لموقف دولة بهتشلي القائد القومي التركي وشريك الحكم، عن الهدف السياسي الخاص للتحالف الحاكم، أو القوى القومية ذاتها وحزبها السياسي، فإن الدعوة لمبادرة سلام تتجاوز الانقسام والصراع الكردي التركي، داخل الجمهورية التركية الحديثة، هو موقف يتجاوز في عمقه التاريخي الواقع السياسي الأخير.
وهو يتقاطع مع محاولة أنقرة العبور من جديد لأرضية تصفير المشاكل، وما هو أهم، حذرُ تركيا المتحفز، من أن تمس الصفقات الدولية، ما بعد ذبح غزة جغرافيتها السياسية، أو تؤثر عليها، بحوادث عنف، أو فوضى سياسية خطيرة.
والمقترح جاء أيضاً في جولة سباق حديثة، بين المعارضة والحكم، تتدافع فيها الطموحات، في الانتخابات الرئاسية القادمة، التي تسعى المعارضة لتبكيرها، وبالتالي فإن هناك مصالح حزبية خاصة، لا يمكننا إسقاطها، غير أن الرئيس اردوغان نفسه، كانت له مبادرة سابقة، تقدم فيها إلى مستويات مهمة، في حوار الدولة مع عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردي الانفصالي.
شكلت في حينها انفراجة تاريخية مرتجاة لم تتم، لكنها زرعت أملاً لخروج تركيا من هذا الاستقطاب العنيف، سياسياً وعسكرياً، في الصراع مع عمليات الحزب المسلحة، وفي تأثير هذه القضية على الذات القومية التركية، داخل تركيا وخارجها، وخاصة مع أكراد سوريا والعراق.
وقراءتنا اليوم تتجاوز شروط المصالحة، بحسب الزعيم السياسي المخضرم بهتشلي، والذي يركز على تسويات قانونية يتمتع بها الحزب لصالح محكومية كوادره وقياداته، مقابل اسقاط السلاح، فالقضية الكردية أعمق في إشكالياتها، وتحتاج الى دورة زمنية لتحقيق السلام الثابت فيها.
ورغم أن الحياة الاجتماعية في تركيا، لم تتأثر مركزياً في علاقات الشعب، بين أناضوليين وأكراد، ولا يزال الانسجام الاجتماعي حاضراً بالجملة، وإن ارتدت بعض أثاره على المشاعر بعد كل جولة صراع، إلا أن هذا الانقسام له ارث أليم، متجذر تاريخياً في مأزق الشرق الكبير، وخاصة بعد قيام الجمهورية التركية الحديثة، وفترة الرئيس المؤسس كمال اتاتورك.
وأستحضر هنا معلومة مهمة عرضها المفكر التركي الإسلامي، توران كيشلاكجي، في ندوة نظمها مكتب دراسات الشرق، عام 2015 حول الإنذار الذي أطلقه المصلحون الأتراك ومنهم حاجي خليفة، في رسالة للسلطان العثماني في القرن السابع عشر، وهي أن خطة المركز الغربي، في استهداف الشرق المسلم، تقوم على إثارة الصراع القومي بين مكوناته، الاتراك، والعرب، والفرس والكرد.
وأن ذالك يقتضي سياسات إصلاحية عاجلة، ولكن الأستانة لم تعتني بهذا النداء، كما هو سلسلة المواقف السلبية، تجاه كل دعوات الإصلاح، التي صدرت من العرب والأتراك وتجاهلها السلاطين، أو حاربها المحيطين بهم.
ولذلك فإن الباحثين الأتراك يرون، أن الصراع مع الدولة الصفوية رغم تطرفها، وغزوها العسكري القديم للعراق في القرن السادس عشر، إلا أن هذا الصراع مكّن للقوة المركزية الغربية، وهو مدار عجيب ترصد عودته اليوم، في تدخلات الجمهورية الطائفية الحالية، أو سيطرتها على دول عربية، ومحاربتها لشعوبها، فهي تكرار لسياسة شنيعة وخطيرة.
ولكنها تُستثمر في ذات الوقت من القوى الغربية الدولية والمركز الصهيوني، وشاهدُ الأمر هنا أن القضية الكردية لها امتداد تاريخي، لم يُعالَج من خلال البسط الفكري وتفكيك ثقافة الصراعات القومية، رغم أن روح الرسالة الإسلامية الخالدة، مثّل قاعدة أخوّة ومصالحات تاريخية لأمم الشرق، لا تغني عن تفعيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، في إعطاء المساحات للقبائل والأقاليم لتحقيق الذات، الذي لا يمنع من التضامن الاممي.
وهي قاعدة قرآنية متينة، تجمع بن مساحة الذات للشعوب، ومساحة الإتحاد لأمم الرسالة، بل أن حتى دعوات الجاهلية التي ارتفعت في الصدر الأول، وموقف النبي صلى الله عليه وسلم منها، هي بذاتها كانت إنذاراً متقدماً قدّره الله عزّ وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، لتنبيه الأمة بان الفتنة القومية العنصرية، قد تفتك بكل مجتمع مسلم تحضر فيه، ومعالجاتها تحتاج إلى تأهيل فكري وسياسي في قادم الزمن.
ونحن هنا نتحدث عن أمة بين ظهرانيها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وانحصرت بين الأوس والخزرج، لكنها ما فتئت تنقض مشروع وحدة الدولة المسلمة، منذ استشهاد عثمان بن عفان، ثم أسقاط الخلافة الراشدة، وإحلال التوريث الذي قَدّم عصبية الانتماء القبلي، على شورى عمر ابن الخطاب وهدي الراشدين.
وذلك في بيوت من قريش ذاتها، فكيف بما استقرت عليه أحوال الأمم بعد ذالك، وعانت منه الدولة العثمانية، بتدخلات خارجية، وبخطايا كبرى لسياسة سلاطينها، انتهت الى هدم الشرق في جغرافيته السياسة، وتقاسمه بين أضلاع المركز الغربي، واليوم يأتي التقسيم أو الاقتطاع لصالح المشروع الصهيوني، وهو أحد محركات المشروع الأخير لأنقرة، للعودة الى أفق السلام الممكن مع اشقائهم الاكراد، وأن يلتقي مع الطموح الجديد للثورة السورية.