أهليةالدولة للحكم المستقر
مهنا الحبيل
هل مسمى دولة يكفي، لاعتباره أرضية قائمة بذاتها، لصناعة وطن مستقل مستقر، يؤهل النظام لحكم رشيد، يكفل على الأقل قاعدة صلبة للتراضي العام، والمرجع التعاقدي، وينظم ما بين الشعب والسلطة، وهل هذا التوافق المهم يكفي، أم أن محيط الدولة وعدد سكانها وظروفها الجغرافية، قد لا يكون مؤهلاً لمفهوم السيادة، فترديده على سبيل المجاز لا الحقيقة، فالسيادة هنا أن تكون الدولة قادرة بذاتها، دون ضمان دفاعي وامني استراتيجي من دول خارجية.
ومع ذلك فإن هذه الرعاية الأمنية ليست جديدة، بل هي سابقة لنماذج الدولة الحديثة، ولنا في تاريخ ملوك طوائف في الأندلس نموذجاً مهما، وقد كان له شبيه ضخم في امارات مسيحية متعددة، منذ القرون الوسطى، كما أن علاقات الأجزاء بالمركز، يلعب دوراً مهمة في ماهية هذا الاستقلال، الذي يتعسف حين يُلزم ذاته الوطنية، بانفصالية اجتماعية مع المحيط الإقليمي المتحد تاريخياً، وروسو تقفز امامه هذه التناقضات، حين يصيغ المقترح الدستوري ودور مشرعه البرلماني، في هيكل هذه الدول.
وخاصة حين مثّل بالفرق المهم بين السيطرة، على دولة ذات حجم صغير، وبين دولة مترامية ذات ولايات متعددة، فهنا اختلاف المركز عن الأطراف في التراث وفي الطبائع يلعب دوراً، في اقبال هذه الولايات أو تمردها، بغض النظر عن طبيعة شراسة الحكم، أو اعتداله، ولذلك فروسو يحفّز على مراعاة الدولة للقاعدة العامة وكسبها، حتى تكون مهيئةً لمقاومة الزعزعة والقلاقل، ويربط ذلك بقوانين عادلة، تكسب شرائح الناس، وألا تتحول الحكومة، الى سبب للفوضى والانفجار الاجتماعي.
وملاحظة روسو بأن بعض الدول تسعى للتوسع، لبقاء الهيمنة والمركزية، يتطابق مع الإمبراطورية الرومانية، وهو يتوافق مع الدولة العثمانية كإمبراطورية قومية، وليس بالضرورة كدولة إسلامية ذات حكم رشيد، ففي حين يشير روسو الى أن هذا التوسع كان مبرراً لتطويل عمر الدولة، من حيث توسع مساحتها وصب المغانم فيها، فهي كذلك في هاتين التجربتين الكبيرتين، منذ العالم القديم في الغرب، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، التي تفككت فيها الدولة العثمانية.
ومناط الجدل هنا في تأثير منظومة الحكم الرشيد، وبلاغ فكرتها للعالم، والاقتداء بها والتأثر بحضارتها، بدلاً من التوسع الجغرافي، وهو هنا يتعلق بدخول الإسلام من حيث بلوغه قلبياً وفكرياً وسلوكياً، وهو يحتاج دراسة عميقة، منذ عهد دولة الفاروق عمر، حتى الدولة العثمانية، أيهما أكثر تأثيراً حضارياً.
ويُدخل روسو دور المساحات، في أهلية الدولة من خلال العائد الاقتصادي وحسن توزيعه، وعلاقة نسبة السكان بما يُزرع أو يُستثمر في هذه الدولة أو تلك، وأن القدرة الإنتاجية المميزة، قد تكون سبباً لحروب دفاعية، بحكم الطمع في عوائدها، فتحتاج إلى قوة دفاعية، والحقيقة أن أبرز مثالٍ لذلك، رحلة فرنسا في غزو الدول الأفريقية، واستعبادها.
فشروط روسو في تحقيق توازن وتواصل متين، بين مركز الدولة وبين أقاليمها، يصدق على الدول الضحية، التي تعجز عن مدافعة الصائل الغربي بسبب التمزق الداخلي، الذي سببه حكامها.
أين يقف المشرّع البرلماني؟
هنا يعود روسو إلى السيناتور المشرّع، وضرورة أن يكون على مستوى من الوعي والاستيعاب لظروف الشعب وأحوال الحاضرة والأرياف، ومصادر رزقهم وطبيعة عيشهم، ويقول أن ما يراه المُشرّع من مصلحة في القانون ليس حجة، وانما فيما يبصره من مساحة تعاطي الناس وظروفهم معه، فتكون بصيرة الرأي هنا حاكمة على القانون وليس العكس، ويضع الأمن العام للمجتمع واليُسر في العيش شرطاً منظما لهذا التدافع، وأحسب أن روسو قد سبق زمنه بكثير، في هذه المراجعات الدقيقة.
ويتساءل روسو أمام هذه المعطيات عمن هو المشترع الأفضل، وأيّهم الخَيّرُ ومن هو الأقل حظاً؟
ويميل إلى من يدرك طبائع الشعوب وظروف البلدان، لكنه متمسك بالتحديث الحقوقي، وروسو يعود لتأكيد قناعته في تثبيت الحريات والكرامة الوطنية، لكنه يبحث بقوة، وبنحت عميق عن الطريق الأقصر والأسلم، لنجاة الشعب، ولحكمٍ رشيد، يُقاس تفوقه نسبياً لا كلياً.
ونحن هنا نتعامل مع مفاهيم روسو ونظرياته، أكثر من اعتماد نماذجه، فاعتباره أن كفاح كورسيكا ضد الغزو الفرنسي، ومسيرتها النضالية، في ثوراتها الشعبية، ومقاومتها، التي أدركها روسو مثالاً للأمل الأخير، لا يمكن النظر إليه بالمطلق كمآل أخير، فكورسيكا ذاتها عادت تحت السيادة الفرنسية، ولكن ربما عنى روسو طريقة كفاح المقاومة فيما بعد، وهي مسيرة تظل تحت المراجعة والجدل.