مهنا الحبيل
لقد كان كلا الغزالي وابن رشد ضحية لهذا المنعطف الخاطئ في أصله، وهو تتبع سياقات جدل اللاهوت اليوناني في ذات الله، بدلاً من تحرير الطريق الجديد للمعرفة، وإن كان هذا ليس حكماً نهائياً، وخاصة أن ابن رشد كان لعقله تتبعاً لهذا الاستشراف في سؤال الدولة والفضيلة والعدالة، الذي طرحه ارسطو أيضا، وهو أصل في الكليات القرآنية، وكانت مساحة القدرة الإسلامية فيه والانفراد التكميلي أو التأسيسي المختلف، قوية جداً.
لكن مساحة الاختناق في التاريخ الإسلامي، ثم حجم الهيمنة الجدلية على رواق الفكر في ذلك الزمن أي القرن الخامس والسادس الهجري (1000-1150م) والذي تواصل فيه، انحطاط العالم الإسلامي وصراعاته السياسية والدموية، يقدم لك تبريراً موضوعياً، لدوافع الغزالي، وربما ابن رشد رغم اختلاف زاوية كل منهما، هذا التبرير هو أن حجم اجتياح الفكرة الباطنية والفلسفية اليونانية القديمة، في أوساط المسلمين كان كبيراً جداً، وانه لا بد من أن يُحرّر النقض قبل البناء، وهو مؤشر تاريخي مهم لواقع المسلمين في ذلك الزمن.
والقول أن سبب ذلك هو انتشار الإسلام في تلك الأقاليم سبب غير مقنع، بل فيه إساءة للإسلام ولقدرته القوية في القناعة المعرفية، ولكن السبب الراجح هو تعطل القوة التفكيرية الفلسفية، ليس في قدراتها ونبوغ أعلامها في استدلال الوحي ومقصده، ولكن في دور الاستبداد السياسي والاستقطابات المتعددة، في تحويل مجرى تعاطي العلوم وتحريراتها، وبالتالي لو كانت هناك حرية سياسية، لذلك الصدر العظيم من علماء المسلمين، لأثبتوا تحريرات الرد، ثم البناء على سؤال الاستئناف في ذلك الزمن.
بل إن حياة الغزالي ومراحل عبوره من ضفة إلى أخرى، يحتاج الباحث أن يتوقف أمامها جيداً، وأن يعرف حجم الضغوط النفسية، وسؤال الذات الذي عرض لها بنفسه، وهي مرحلة دقيقة جدة شرحها د. سليمان دنيا، وهو أبرز شخصية فيما أعلم اهتمت مقدماتها بحياة الغزالي، وعلاقتها بفكره، ويهمني هنا التأكيد على معنى مهم ودقيق، فيما ورد على لسان الغزالي وقطع به في كفر أعلام الفلسفة من خصومه، ليس لأن الكفر ممتنعاً بذاته، فالكفر بحد ذاته حق إسلامي للخلق.
لكن القصد هنا في مسؤولية ذلك العالم أو المتكلم، عن خوضه في هذا اللاهوت وغيره، فهل يكفر به عيناً أو لا يكفر، إن كان يعرض لذلك في فهم فلاسفة اليونان، فيما الحسم بما يعتقده واستقر عليه رأيه يصعب جداً، وخاصة في مسألة قدم العالم الأكثر حرجاً.
وفي تفصيل مرحلة القلق والشك التي شرحها العالم المتمكن سليمان دنيا، والذي لم يُعطى حقه في تقديري، رغم اهتمام الأزهر به في مناسبة خاصة، لكن فكر الرجل وقدرات قراءاته للمعركة الفلسفية الكبرى، بين الغزالي وابن رشد وتخصصه في الأخير، تحتاج ندوة علمية موسمية سنوية أو أكثر.
المهم هنا الإشارة إلى أن حالة الشك التي كتب فيها الغزالي تهافت الفلاسفة، تزامنت مع قلق نفسي عميق، قبيل انتقاله الى اليقين الروحي، وهذا الشك المقصود، أمرٌ يتردد على النفس البشرية حين تطرح أسئلة الشك الوجودية أو في ذات الله، وهو أمر ليس مستغرب، فيُثبّت الله الإيمان باليقين بعد عبور الشك.
وهنا نشير الى فلسفة ايمان الغزالي الأخير، الذي مات عليه وكتب خلاصات علومه الكبرى فيه، وهو إحياء علوم الدين، وهو أن هذه الفلسفة المقصودة هي أن روح التمكن في استشعار المعية المحيطة من الله، ومراقبة الضمير فيها وتحريك الجوارح حولها، هي بذاتها يقين ايماني قطعي الدلالة، يستشعرُ جوهره في دورة روحها المتعلقة بذات الله، ولذلك اعتبر الغزالي وغيره، هذا الاستشعار أو التبتل مفصلٌ ايماني فارق.
وهذا مع تحققه عند البعض فإنه لا يلزم لكل من ادعاه، كما أن ليس كل من خاض معارك الجدل، باغياً فيها الدفاع عن جوهر الإيمان ويقين الروح، فاقد للإيمان اليقيني، فلا دليل على ذلك مطلقاً، وقد ينحرف من يزعم الرعاية المحيطة والاستشعار العرفاني، ولم يُخلص مقصده أو انحرف سلوكه، أو اُبتلي هو ذاته بالشك.
فهذا أمرٌ لا نقطع به، والناس أحوالٌ في ذلك، كما أن موافقة الإمام الغزالي في قطعه بالكفر على الفلاسفة الآخرين، وهو ما خالفه فيه ابن رشد وغيره، ليس حجة لأي أحد دون دليل قطعي في ذلك، وهذا لا يترتب عليه بالضرورة، عدم تورط ابن سيناء أو الفارابي ببعض الآراء الخطرة، إن صح النقل عنهم، ولكن ظهورهم في مسرح الفلسفة الإسلامية الكبرى، هو أيضا منقبة لحيوية المجتمعات المسلمة، بما فيها شركاء العلوم من غير المسلمين أيضا.
ودليل على مساحة التعايش المعرفي كما هو الاجتماعي، فلا يلزم من بروز علماء الطوائف (المنحرفة) في موازين أهل (السُنة)، أن ذلك دلالة ضلال للمجتمع والعصر، بل هو وثيقة تأكيد على تفاعلية الروح الإسلامية، وامتداد عصورها، واحتوائها للتطورات العلمية الفكرية وجدلها الصاخب، دون أن يعني ذلك تزكية مطلقة، لذلك العالم الشرعي أو الفيزيائي أو فيلسوف الطب.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا القلق والحالة النفسية المتوترة، التي مر بها الغزالي لها دورها أيضا، في صياغة مصطلحاته وتعبيراته، وهذه حالة مر بها الغزالي وغيره، وهناك من صدرت منه عبارات أشرس، وأحسب أن دراسة الظرف الذي يدوّن فيه العالم رأيه، مهم جداً وخاصة في فهم مقصده في مهاجمة الرأي أو القطع بكفره أو ضلاله.
وهذا يرد على الأمام ابن تيمية فيما صدر عنه وغيره، في أوقات مختلفة، بين التوازن وبين العبارات الثقيلة التكفيرية، أو المشددة في التعامل مع الطوائف، ومع ذلك كله فهؤلاء الأئمة الأعلام ليسوا أنبياء، ولا أقوالهم تَصدُر مؤيدةً بالوحي في الغضب والرضا.