إدريس غي..الكفاح الإنساني للإسلام الافريقي
مهنا الحبيل
24/5/2022
من الخطأ بمكان أن يُنظر لقضية اللاعب السنغالي الدولي إدريس غانا غي، والمحترف في نادي باريس سان جرمان بأنها فقط حادثة مرتبطة بالموقف المناهض والمعادي له، بسبب رفضه الشخصي لدعم الحياة المثلية ضد الأسرة الفطرية للإنسانية، فهذه الحادثة كانت تُخفي وراءها، كتلة تطرف ضخمة في موقف الكولونيالية الثقافية البديل عن الكولونيالية الاستعمارية، فهي هنا حالة اصطدام بجدار التطرف الفرنسي، الذي تطور كثيراً موقفه المناهض للإنسان الآخر، خارج القومية الغربية بإرثها المسيحي واللبرالي، وتُرجم ذلك في الحياة السياسية والاجتماعية في فرنسا، من رئاسة الجمهورية إلى الصحف الشعبية.
وحتى نرتب الأفكار في هذا المقال نعرضه في النقاط التالية:
1- رَفض إدريس غي المشاركة في مباراة مؤدلجة لدعم المثليين، ولم يُعلن موقفه ببيان، ولم يتخذ موقفاً هجومياً مباشراً من هذه المشاركة، لكن الآلة الإعلامية والثقافية الضخمة في المركز الغربي شنت عليه حملة شرسة، وصلت للمطالبة بالتحقيق معه، وأُخضع اللاعب لحملة ترهيب واسعة، خشية من أن يُفسر موقفه، بأنه تبني صريح لحقه الشخصي المقطوع به في الإسلام تجاه المثلية.
2- القضية تطورت في الاتجاه المعاكس لأصحاب الحملة، وفي مركزهم العالمي، فإعلان الرئيس السنغالي دعم موقف إدريس غي، في حق فردي أساسي من حقوق الإنسان، اُتبع بحملة تضامن عالمية مع النجم السنغالي، الذي كان يُظهر شعائره وروحه الإسلامية، كرابطة أخلاقية وهوية ثقافية أصيلة، في وجدان السنغال وفي أفريقيا السمراء.
3- يبرز لنا هنا بالضرورة الوجه الكولونيالي لاستخدام المثلية القهرية، وهذه الحادثة تؤكد صحة استخدامنا لهذا المصطلح (القهر)، فما يجري على مستوى التشريعات الغربية، والضخ الإعلامي والتوظيف الدولي للظاهرة المثلية، ليس مرتبطاً بطبائع أو سلوك يطرأ على الفتيان أو الفتيات، وإنما هو برنامج ضخم، تديره ذات القوة الرأسمالية وتُروّج له في كل وسائطها، وتفرضه على القيم الإنسانية وبالذات في عالم الجنوب، الذي لم تتمكن منه الظاهرة.
4- ورغم أن هناك حالة ضيق في الغرب ذاته، وتذمر من العسف القانوني العنيف، أو إخضاع الأطفال للتشكيك في هوياتهم الجنسانية مبكراً، وغير ذلك من صناعة الأجواء المحمومة حول المجتمعات، وفي كل مساحة ثقافية وسياسية، إلا أن مجرد ممارسة الحرية الفكرية والتربوية المخالفة للمثلية، أصبح محل ترصد ومتابعة من قبل المشروع الكولونيالي، والذي يهمنا هنا وضعه في سياقه العلني، خلافاً لذلك التضليل الضخم، الذي يقدم هذه الثقافة ضمن أقليات التعدد، فهي بحسب الواقع باتت أداة لصالح الامبريالية الثقافية الجديدة.
5- وعليه فقد كانت خطوة إدريس غي مستفزة للفرع الفرنسي لهذه القوة، التي أرادت تأديبه وقمع أي مساحة حرية قيمية، يتمسك بها الإنسان الحر الآخر، الذي لم يخضع لماكينة الغرب السلوكية ونمط سوقها، فلا يجرؤ أحدٌ على رفض هذا القهر المثلي، وخاصة في مساحات الضوء المفتوحة على كل الناس، وهي رياضة كرة القدم، التي تصل إلى مواقع واسعة وتربط هذا العالم، وبالتالي تتداخل مع السوق الوظيفي الضخم للرأسمالية العالمية، فقوبل إدريس بذلك الهجوم.
إن حديثنا هنا عن مفهوم الإسلام الأفريقي، الذي رد من خلاله إدريس غي على حملة الشيطنة، لا يُقصد به أن هناك إسلامات متعددة، ولكنّ الحقيقة أن طبيعة هذه الرسالة وقوتها الفكرية المتجددة في عالم اليوم، رغم كل الفشل الأخلاقي في الشرق، والنماذج المسيئة لصورة الرسالة الإسلامية، إلا أن هذا الجوهر الإيماني الفلسفي، يتمكن من وجدان لاعب كرة القدم كما هو عقل المثقفين وتحريرات العلماء، ومساحة الجدل الفلسفي الذي تشارك به أفريقيا، ومع الأسف أن جسور التعاضد والتكامل، ضعفت كثيراً بين العرب وبين شركاء القيم والرسالة، بين ضفتي آسيا وأفريقيا.
وحين نقول شركاء القيم نعني به غير المسلمين من الأفارقة، والذين لا يزالون يتمسكون بروح الإنسان المستقلة، التي ترفض احتلال الذات الفردية في عالم الجنوب، وتسليمها وتسبيحها للبرالية الإمبريالية في الغرب، وكل مذاهبها السلوكية والاستهلاكية، بل إننا نعجب اليوم بأن حالة الانجراف العربي، المناهضة للإسلام كرسالة وليس الصراع مع الإسلاميين الحزبيين، والكارهة لروحه الأخلاقية الفكرية في وجدان الشعوب، تتمكن في بلدان عربية أفريقية، في حين يَرفض الكفاح الإنساني للأفارقة المسلمين فرضها على حياتهم اليوم.
إن هذا الصوت الثوري الحقوقي يقوم على أضلاع أساسية، أولها طبيعة روح الإسلام المذهلة، التي يتحد عليها العقل الإنساني والقيم المشتركة السلوكية والفكرية للخليقة، وهي تحمل طاقة ممانعة صلبة لصد شركات الحداثة الضخمة، ومنعها من تأميم الحرية الإنسانية، خاصةً بأن هذه الشركات الرأسمالية الكبرى، هي القوة العميقة التي تسطو على الناس وتقهرهم.
لكن انتصار الفكرة الإسلامية لا يزال يصنع جسوره، دون جدران فصل عنصري، فوصول القيمة الفكرية والتفسير الروحي والعمراني، لا يزال متصلاً وحاضراً حتى في حياة الغربيين، وبالذات من ذوي الفكر والتأمل، بل إن الإسلام أضحى القوة المتبقية الوحيدة لحماية الفطرة الإنسانية، والقدرة الجدلية الفلسفية لتفكيك ميراث سطوة القوة، التي تتجدد في عالمنا اليوم، ولم توقفها فسلفة فوكو إطلاقاً، بل أُعيد استيعاب جدله في داخل هذه (الميكنة)، وبات مذهبه الجنساني وسيلة للقهر في القوة العالمية الإمبريالية.
ويالها من مفارقة، أن نظرية القوة التي لا تزال أجيال من فلاسفتها وطلبتها، تُدرسها وتعيد تقليدها وتهمش على هامشها، هي اليوم وسيطة عنف خطير يفرض على الإنسانية، ويُتوارث التدثر بها وتقديمها في ثوب أكاديمي قشيب، ورغم كل مؤلفات التقديس العربية وغيرها من عالم الجنوب لإعادة تدويرها البائس، إلا أنها تعلن فشلها لذات القوة الامبريالية، هنا الفارق بين هياكل التدوير لأزمة الفلسفة الغربية، وبين منائر التحرير المستقلة المقموعة لفلسفة المعرفة الإسلامية، التي تبعث وجدان المضطهدين، لتصعد قوة الفكرة لمواجهة فكر القوة.