مهنا الحبيل

25/1/2022

يجب القول هنا أن انطلاق مسار الفكر الفلسفي الجديد، إصلاح الحداثة، هو مهمة تاريخية في عالم المعرفة الإنساني، وهذا مختص بالرؤية التي ينطلق منها هذا المسار وليس بفكرة إصلاح الحداثة بذاتها، فمحاولات النقد والتجديد والتهذيب، لمفهوم الحداثة لم تتوقف، لكنها كانت في سياق الدورة المغلقة لمركز الحداثة، لم تخرج منها ولم تطرح أصولاً معرفيةً مستقلة عن هذا الجوهر، إلّا في عدد محدود لم تواصل بعده الرحلة اتجاهها وبالذات في تفكيك جوهر الحداثة.

إذن نحن اليوم في عهد حديث لإعلان ما يعتبر البلاغ الأول، للنظر في نقض الحداثة لا نقدها وحسب، وعليه فإن المشروع المشترك بين وائل حلاق وطه عبد الرحمن، هو جذرٌ مهم في حياة التجربة الإنسانية، منذ شهود حركة التنوير بأرضيتها الفلسفية، ونموها في الغرب وسيادتها على عالم الجنوب.

ومن المهم هنا أن نطرح وجهة نظر خاصة في تاريخ الجدل المعرفي عن الحداثة، وهي التحفظ على اعتبار المراجعات اللاحقة في مجمل النطاق الفلسفي الغربي هي مسار لما بعد الحداثة، فهي أفكار تدور في ذات الجوهر والنطاق المركزي للحداثة، من حيث تسيّد المفهوم المرجعي للعلوم الإنسانية، وتحييد العلم المعرفي، ثم إطلاق ما بعد الحداثة عليها، بما في ذلك ثورة ميشيل فوكو.

ولذلك فإن أعادة النظر في هذا التقسيم هو ضرورة، حتى لا يُضلّل الوعي المعاصر بأن تدوير الحداثة، بين هامشها ومتنها يعني أنها دورة تمرد ناقشت كلياتها الفلسفية، أو اسقطت محداداتها.

ولذلك هنا تميّزُ مشهود لهذه البعثة الجديدة في تاريخ العلوم الإنسانية، وبالذات مصدر التفكير والإلهام لمعرفة العالم، وكيف يُعرف العالم أو يعرّف من جديد دون نقض الركيزة الجوهرية لعلم الحداثة، وهذا ما يتفق عليه تحالف حلاق/عبد الرحمن.

وتحرير هذا السؤال الكبير، هو من يقود للإجابة هل نحن بحاجة إلى إسقاط الحداثة، لنقلة تحررية أخلاقية في العالم أم نحتاج لإصلاحها؟

إن الرجوع للركيزة الجوهرية للحداثة وأصولها في الفلسفة الغربية، يعيدنا بقوة إلى فهم نهاية المآلات لتوظيف الحداثة أو تخلقها في العالم الحديث، وما هو هذا العالم الذي تخلقت فيه، هل هو جغرافيا كوكب الأرض وديمغرافية الإنسان فيه، ام هو العالم الغربي، بغض النظر عن نجاحه من فشله.

إن من الواضح هنا أن تلك التجربة، رغم احتكاكها ودراساتها البحثية والأكاديمية العديدة للشرق أو عالم الجنوب، كانت منزوية في رواق التداول والمراجعة في قبضة أكاديمية الغرب.

أما الخلل الثاني فهو ما المقصود بالرؤية الكونية، وهي قضية في غاية الأهمية، كيف يكون للمعرفة الحداثية رؤية كونية، وهي في أصلها ترى ما هو خارج نطاق المجهر والعلم التجريبي ميتافيزيقيا، ليس لها أساس علمي ولا دلالة، وهو ما يعني تنحية العقل المعرفي.

والعقل المعرفي هو كل علم ودلالة فكر يستنبطها العقل، أو يجزم بها من خلال فهم محركات هذا العالم المنظور في دائرة الكون الكبرى، ودلالات الروح فيه، وهو ليس مُعترفاً به في النطاقية الحداثية، أكانت معاهد أكاديمية أم مشاريع علمية أو اقتصادية، أو حزمة عقائد ليبرالية أو يسارية تعيد توصيف وتحديد ذات الإنسان.

إن العقل التجريبي والعقل الفلسفي المادي حدد مسبقاً مصادره في هذا الكون، رغم أن آلة الاستدلال التي طورها من المجهر للتدبر في الفلك ثم علوم الفضاء، لم يكن مرتبطاً في تأسيسيه بنطاق الحداثة، ولكنه سابقٌ لها في تاريخ العلم الإنساني عبر اختراع المسلمون العدسات المكبرة، التي أسست للمجهر الفلكي.

هذا المجهر ثم علوم الفضاء الذي أسس عبر استطلاع العدسة المكبرة ثم تطويره إلى للمدار الكوكبي، كان يبعث رسائل يقينية برحلة الخلق الكوني، مرتبطة بالموجد الخالق، والذي يتشارك معها مسارات معرفية جديدة تقوم على هذا الجوهر.

ولكنه جوهر لم تقبل به الحداثة فحبست هذا الكون في عقلها المادي المحدود، وفي نطاقية الحداثة المادية، وهو بذاته أصل التشكيك في مرجعية الحداثة كرؤية كونية، وهنا الوصف الدقيق هو الرؤية المادية للكون، التي تدور في فلكها الحداثة، فهل استطاعت الحداثة المنكرة للمعرفة الشاملة وللعقل المعرفي، أن تصيغ رؤية لهذا الكون، ثم بناء منظومة فلسلفية تؤسّس عليها نهضة أخلاقية للبشرية؟

هذا هو ما يكتشفه العالم اليوم، لكنه عاد لهذا السؤال من خلال مصدر فواجعه، وليس من خلال اعلان حالة عالمية تسعى لمراجعة مصدر معرفتها، ثم تبني عليها علاقات التفاعل الإنساني، فاليقظة المتأخرة جداً أمام ما تبشر به علوم الحداثة ذاتها من نهاية العالم، وهو فناء الأرض أو سقوطها من خلال المنتجات التي خلقتها عواصم الحداثة، وهو عالم لا يملك الإيمان بالرؤية الكونية التي تقوم على سعة العقل المعرفي وجوهره الروحي.

إننا هنا نقترب من مركز السؤال التاريخي الجديد، وتحديد المهمة فيه، فالقول بإسقاط الحداثة يقوم على نزع الجوهر الذي لا مفر منه لإيجاد بديل الإنقاذ للحياة الإنسانية، فدونه لا يمكن أن يتحقق للبشرية نقلة مصالح كبرى توقف السقوط المجنون، لكن ذلك لا يعني بالضرورة إسقاط الحقل العلمي التجريبي بكل تفرعاته، في الميادين التي خدمت البشرية.

كما أن نتائج التدافع الإنساني وما ترتب عليها، من أرضية حقوقية ومجتمعية ودستورية في صناعة ثقافة الحقوق والتعايش لتشريعات قانونية، لا يحكم عليها بالإسقاط، بل يصحح ويبنى عبرها علاقات التشارك الإنساني، ويعالج هنا أثر غياب المركز الأخلاقي.

وهي دوائر جدل ومساحة تاريخ وواقع عالمي ليس بالسهل، ولن يصل العالم إلى جُرَع التعافي من أمراض الحداثة بسهولة، ولكن لا يمكن لهذا العالم العبور دون اكتمال التأسيس للرؤية البديل، وهي مهمة الفلسفة الأخلاقية اليوم والتي لا يزال بعضها يدور في حلقة التقليد المميت للحداثة وهامشها.