مهنا الحبيل

4/10/2022

أنت هنا في اللحظات الصعبة لتلقي الخبر الحزين، تكافح ذاتك ومشاعرك الشخصية، ولعل المرض الطويل الذي حجب الشيخ رحمه الله، كان مؤذناً في أنفسنا بقرب رحيله، وإن كانت الأعمار بيدِ الله، لكن الاعتلال الأخير جاء في زمن تقدم عمره، ومع ذلك جاء الخبر في شدة حزنه بألم فقده، فالصعوبة هنا وأنا أُحرّر المادة، هي أنني دوماً انزع للتبيان الفكري في سيرة الراحلين العظام، لأنه هو الثروة المتبقية بين الأمم، والعلامة القرضاوي هو أحدُ تلك الشخصيات، التي صنعت فارقاً فكرياً تاريخياً لحاضر العالم الإسلامي، خلال تصدره مكتبة الثقافة الإسلامية النوعية، لخمسين عاماً.

لماذا قلنا نوعية، لأن رحلة الإمام لم تكن تخضع مطلقاً للسائد الديني، الذي خالف رسالة الإسلام وهديه القويم، وهي هنا أوّل قاعدة نؤسسها في حديثنا عن الشيخ، إن السؤال الذي أطرحه في هذا الاتجاه سوف يحدد المغزى في فهم رحلة الإمام: هل الإسلام مذهب فقهي أم طريقة صوفية، ام جماعات دينية تراثية، أم تيارات دعوية متعددة، حزبية أو فكرية؟

إن تحرير هذا المعنى يقودنا لفهم رسالة القرضاوي وقبله شيخه الغزالي، ومدرسة المقاصد المتعددة، فحصر الإسلام في زاوية منفصلة أو محدودة، تمثلها هذه الجماعة أو ذلك المذهب، أو هذا التيار، هو الصورة المعاكسة لرسالة الإسلام الكونية في الحياة، ولذلك فإن البعث الذي صنعه الغزالي والقرضاوي، كان مختلفاً، فلم يكن جذوة عاطفية موسمية للانتصار للإسلام، أمام ما يتعرض له المسلمون من مظالم، أو الرسالة من تشويه.

ولكنه كان منهجاً فكرياً خاض معاركَ ليست سهلة، في الإصرار على توضيح المفهوم الرسالي الكوني للإسلام، وهذا المنهج مختلف تماماً من ركن الانطلاق الأوّل عن الجماعات التيارية أو المذهبية، التي تستدعي الإسلام كأحرفٌ جافة، وتزعم أن وضعه على عنوان التعاطي، والترويج، يكفي بترديد بعض الآيات والأحاديث النبوية، هنا الرسالة مختلفة، وهي تنطلق من عالم شرعي أزهري، يعرف مدارات الاستدلال، وخرج مبكراً من ضيق الحزبية الدعوية، إلى سعة الرسالة الكونية للإسلام.

ولقد عاصرتُ الإمام القرضاوي في مكتبته، وكانت من أهم فقرات زيارة الدوحة قديماً، قبل أن ينتشر مداد هذا القلم المتواضع، أن أُصلي مع الشيخ في جامع عمر ابن الخطاب، ونحضر خطبته المختلفة، لكن مكتبته التي صدرت في مسارات عدة، كانت تقف عند قضايا الجدل الصعبة، في تبيان مفاهيم الإسلام، وموقفه من الخطاب الدعوي الغليظ، ومفاهيمه في التعامل مع المختلف المسلم وغير المسلم، فكانت كتبه تعطي تنبيهات مباشرة، ولذلك كتب مبكراً في الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف.

وفي ذرة صعود الصحوة والتحالف الرسمي معها، قبل أن تهوي على رموزها منظومة الظلم الشرس، وتُبادر الأنظمة الرسمية للعسف بها، أو استبدالها بتنظيمات دينية وظيفية، وكتب الشيخ في أخطاء الحركة الإسلامية المعاصرة، وحدد أزمة المؤتمرات الإسلامية في المهجر، وكيف تحولت إلى مجالس فقهية ضيقة الأفق، خسرت فيها مرحلة زمنية مهمة.

كان بالإمكان أن تُمثّل قاعدة انطلاق مختلفة لمسلمي المهجر، قبل
أن تهوي عليهم أحداث 11 سبتمبر الإرهابية، وحملات الغرب المسعورة ضد المسلمين في أرضهم وفي مهجرهم، وكان رد الصاع الغربي متوحشا ضد المسلمين الأبرياء في إرهابه، متمكناً من استثمار ذلك التطرف الذي لا طالما حذر منه القرضاوي.

إن المشكلة في تعاطي رحلة الإمام القرضاوي، هو قراءته من خلال الصفحة السياسية الأخيرة لأحداث ما بعد الربيع العربي، والتي أُقحم فيها الشيخ أو اخذ مواقفاً، من خلال ما رآه من عسف وظلم، وقطع طريق متوحش لآمال الشعوب العربية في الربيع العربي، هذه الآمال التي كان الشيخ معززاً وداعماً لها في سبيل دولة العدالة الاجتماعية السياسية، التي يرتضيها الإسلام، والتي أعلن الشيخ مبكراً أن إعلان الحريات السياسية مقدمٌ فيها، على إعلانات تطبيق الشريعة.

ذلك التطبيق المزعوم الذي تكرر أو ثبت في بعض الدول، وكان يهدم فكرة الإسلام ومبادئه الإنسانية من الداخل، ثم تهوي تلك الأنظمة بسوطها المتوحش على الشعوب، فلا هم يرون قيم الإسلام، ولا هم يصلون لدولة مدنية جامعة لهذا القطر المسلم أو ذاك، ولذك كان الشيخ يُحذّر من تكرار خديعة رفع المصاحف، التي أسقطت العدالة التي أمرت بها السماء، من خلال دعاية دينية سهلة، فتت عضد المسلمين.

لقد شارك الشيخ بقوة في كل حوارات دُعي إليها، بين المسلمين والمسيحيين ضمن الحوار القومي الإسلامي أو الحوار العلماني الإسلامي وغيرهم، وكان ذلك يتماشى مع ما يسطّره من فقه رشيد، لتعزيز التعايش بل والشراكة الوطنية المتساوية في الحقوق والواجبات، بين المسلمين وغيرهم، وبالتالي كانت هذه المواقف التي يراقبها الشباب، رغم الهجوم الصحوي الشديد على الشيخ، تترك آثارها وبصماتها وتخرق جدار التشدد لتصل إلى مهج الشباب.

وكان فقه المعاملة والسلوك الحسن، يجتذب المسلمين من غير الحزبيين فيشعر الناس بطمأنينة في دينهم ورضى نفسي بين مجتمعاتهم، وكان القرضاوي رائداً في ذلك.

هذه الجهود التي تصل الى ستة عقود مكثت في الأرض، وتأثرنا بها وتأثرت بها أجيال مهمة، واتجاهات فكرية تخوض معركة التحرير الفكري الثانية للإسلام، وتخليص مفاهيمه، من سوق التمييع الغربي والتأويل الشاذ ومن فقه الكراهية والمفاصلة المذهبية، فتذكر بالإطار الإنساني الذي أبدع الإسلام في تنظيمه بين البشرية، وظل يذكرها برسالة الروح الأخلاقية.

وفي ملف الطوائف المسلمة عمل الشيخ مبكراً على جسور الحوار، وأشرك ممثلاً للطائفة الشيعية في اتحاد علماء المسلمين، وكان منفتحاً بشدة على هذا الأمر، لكن ما نُقل عنه بعد ذلك في أزمة غضبه من مذابح الجماعات الإرهابية التي استخدمها النظام ضد مدنيي سوريا، ورعاية ايران للحرب ضد الثورة، فضلاً عن دعم التطرف الطائفي والخرافة وبقية مشاريعها، التي مزقت الوطن العربي وفرقت الصف فيه، هو ما تسبب في صدور بعض العبارات التي لا تتفق مع منهج الشيخ ولا فلسفته، ولا نزعم تزكية الشيخ المطلقة وإنما نعرض لآثار فكره الرشيد.

لقد حافظ الشيخ على الدفاع عن الحقوق الإنسانية والوطنية التي يدعو لها الإسلام، وتتفق معها منظومات حقوقية مدنية، وشجع جسور الحوار الفكري مع الغرب، لكنه ظل يدافع بقوة عن قيم الشريعة ومبادئها العليا، ويواجه حملة شيطنة الإسلام والمسلمين، وهو ما عرضّه لإجراءات قمعية غربية، قدمت الملف لها أجهزة مخابرات عربية.

لقد سعى الشيخ إلى إبقاء علاقاته مع أنظمة رسمية وشجعها، في دعم المناسبات الإسلامية، فكان منفتحاً على أي وسائط حوار تخفف من أجواء الحقن، بين الإسلاميين والنظام الرسمي العربي، وتساعد على خلق جسور ثقافية، ولكنه لم يكن ليتنازل عن مبادئه، وقصته مشهورة مع مجالس الملك الحسن الثاني الرمضانية، كما أن الجوائز التي حصل عليها ومواسم الدعوات، لم تصرفه عن الدفاع عن عقيدته في أولوية الحرية السياسية، ولذلك هوجم الشيخ في حملات قذرة امتدت من الغرب إلى الشرق.

سعى الشيخ للحفاظ على علاقاته مع العلماء المختلفين عنه، وقدم نموذجاً رائعاً، في المبدأ الشرعي للاجتماع في المتفق عليه، والتعاون للبر والتقوى، وكان يطرح رؤيته في وجود الزوايا الإيجابية حتى مع التيارات والعلماء الذين يختلف معهم، ولقد كان لدعم قطر بأميرها الأب رحمه الله ثم الأمير الوالد ثم الشيخ تميم، دوراً ايجابياً لا يمكن إسقاطه في رعاية الإمام ودعم رسالة الاعتدال التي بشر بها.

لكن العنوان الكبير لنا في هذه المرحلة، هو ان إرث الشيخ في منهجه المقاصدي الكبير، هو ما نفتقده، ليس للتيارات الإسلامية المتعددة فقط، ولكن لعلاقة الإنسان بالدولة وبالشريك الوطني المختلف دينيا وفكريا، فهي رسالة الإمام رحمه الله ضمن مشروعه الفكري الكبير، للإحياء والتجديد الإسلامي، خالص العزاء للصديق العزيز نجله د. عبد الرحمن ولكل ذوي الشيخ، ولسرادق العزاء الممتد من المحيط إلى الخليج.