الباحث الفلسفي الإسلامي ووائل حلّاق
مهنا الحبيل
2/6/2020
تواجه المراجعة النقدية العميقة للحضارة الغربية، تحدياً كبيراً اليوم، ونلحظ هنا تمسك وائل حلاق ورينيه غينون، بمفهوم الدفع للاعتدال لكليات الدراسات الفلسفة الغربية، رغم أن كليهما يحملان رؤية تفكيك نقدي لمآلات هذه الفلسفة، ولكنها في نهاية الأمر أنتجت حضارة، كيف يُنظر لهذه الحضارة، وكيف بالإمكان وضعها في سياق التقدم للبشرية يبرز هذا التحدي؟
وهذه الرؤى النقدية المهمة لحلاق، التي جمعت حصيلة كبرى من خلاصات الفلاسفة والباحثين الغربيين، ثم نقدتها، لم تصل اليوم إلى منصة تنصفها للمنافسة الفكرية، واستقطاب اهتمامات الفلسفة الحديثة وباحثيها، للمضي في قراءة هذا النقد، أو الإضافة عليه أو نقد النقد ذاته، بل إن رؤى حلاق كما كان غينون، قد يتعامل معه في الواقع الأكاديمي بمنظور الناقد المتطرف.
ونحن نُثبّت هذا التصور الذي نستشعره، ندرك تماماً بأن هناك حركة استقلال جديدة لميادين البحث الفلسفي، تتقاطع مع الطريق الثالث للمعرفة الإسلامية، لا يزال أمامها مفاوز وقفار ثقافية، فضلاً عن الإمكانيات الداعمة التي يحتاجها هذا الطريق للوصول لمنبر يعرض للعالم، آفاق فكرته الإنسانية ودورها الغائب في تجديد الرؤية الكونية، ومن ثم وضع الرسم البياني الذي يختطه البحث الجديد، ليس على أساس الاتفاق العقائدي، وإنما على قاعدة المشترك الحضاري القيمي.
أما في الساحة العربية فنلاحظ هنا صورتي تجاذب سلبيتان، تعوق التقدم لمنهج الحرية الذي يستقل بعقله المجرد، بعد أن يُحيّد ولو مؤقتاً، قوة النطاقات المركزية التي هيمنت على عقله وتفكيره، وهو ما يُمكن أن نطلق عليه احتلال العقل العربي الفلسفي، وقد يبدو هذا الوصف مبالغٌ فيه، لكن المقصد، هو أن هذه العودة المتكررة، للقارئ والباحث العربي، في تتبع سرد نسب الفلاسفة الغربيون، وتراجم تلامذتهم، دون الولوج إلى الجدل الحر الذي استقل عن هذا التقليد، هو مرحلة تيه طويل.
وبالمقابل فإننا نلاحظ أن هناك حضور وتعاطي إيجابي مع الفلسفة الحديثة، في الظاهرة الإسلامية ما بعد الربيع العربي، لكنها تذكّر بالمحددات العلمانوية، التي صنعها العقل الاستشراقي، ليحكر فيها عقل الشرق المسلم، فتكون ثقافة رده من ذات هذه المحددات، بدلاً من نقاش المشروعية الأخلاقية لتسلسل الفكرة، من خلال التذكير بالجوهر الأخلاقي للفلسفة، ليس كضمير نبيل يجب أن يلتزم به الباحث فقط، وإنما لوضع الهدف الكلي لعلم المعرفة البشرية.
ما الذي نسعى له في هذه الحياة، وما هي هذه الحياة، وأين نريد أن نصل بها ونصل فيها؟
بعض هذا الحضور الإسلامي أظهر سطحية، في تناول فكرة د. وائل حلاق من كتابه قصور الاستشراق، الذي يعد مدونة لفارق زمني مفصلي، في تاريخ الفلسفة، وكما قلت سابقاً ففلسفته تتجاوز مسألة جدله مع ادوارد سعيد، إلى فكرة تحرير جديد، غير أنك تندهش من أن عدد من الباحثين الإسلاميين، لا يزال رهينة لفكرة الصراع المزعومة مع الإسلام، عبر كتاب الدولة المستحيلة.
ولسنا هنا نمنع عن حلاق نقد أو مناقشة الفكرة الإسلامية، من خلال قناعاته الشخصية، التي تُمثل ضميره الذاتي، فرحاب الفلسفة واسع للحوار، فكيف يمنع الباحث فضلاُ عن الفيلسوف المتمكن من نقاش الحقائق الإسلامية، التي يعتبرها هو جزءً من مرويات العالم والتاريخ، قبل أن يقف على منصة صلبة للتحقيق، هذا طبيعي أن يكون متاحاً لغير المسلمين، في حوارهم مع المسلمين، أو في طرح الرسالة الإسلامية ضمن مدلولات البحث، وإنما المعيار في عدالة الأدوات ومساحة التعبير، ودقة التحقيق.
لكن حلاق الذي له مساحته الفكرية الشخصية، يُنظر لكتابه من تلك المنصات الإسلامية بمعيار غريب، فكتابه الفلسفي ليس ديالكتيك الإلحاد، أو استدعاء تخلف المسلمين بناءً على اتهام تراثهم أو أصول رسالتهم، كميتافيزيقا خرافة، هذا لا يوجد له كتلة في التوجهات المهيمنة على حلاق مطلقاً، بل العكس.
فحلاق واجه تلك التعميمات القاسية الظالمة، ثم حرر منطلقات نقدية معرفية لها، لم يصل لها مطلقاً إدوارد سعيد، وضعف حصيلته الشديد في فهم الإسلام، وعدم اهتمامه بفلسفته، وموقفه الجاف وغير الودي من المعادلة الإسلامية المعرفية وحاجة العالم إليها، رغم أنه نجح في إحراج الكتلة الاستشراقية المتعصبة، وأسقط الهالة التقديسية للاستشراق الكولونيالي، أو روح الكراهية والازدراء، التي نَفَذت للإنسان الغربي في موقع السياسة أو الأكاديمية ومشروعهما المشترك.
أما الجانب الآخر فهو فكرة التقليد التي هيمنت على الفريق العربي الآخر، الذي لا يتفق مع حلاق ويظل مرهوناً بشخصيات الفلسفة الغربية، وهي ذاتها تؤثر على الباحثين الإسلاميين، ولا نقصد في ذلك جولة المواجهة المصلحية التحريضية الغبية ضد حلاق، وإنما رفض الباحث الإسلامي، مساحة الاندياح لفهم فكر حلاق، والمصابرة في القراءة التحقيقية، لا الانطباعية، أو تصفح أوراق الكتاب.
وهنا حين نعود لتأكيد خطأ هذا المنظور، فإننا نشير إلى الخسارة الكبيرة في المعرفة، التي سيقع فيها ذلك الباحث أو القارئ المحتبس في موقفه من وائل حلاق، ويغيب عنه أن الكتاب استعرض كماً هائلاً من نظريات الفلسفة الحديثة، وعَرَضَ لطرح أصحابها ثم نقدها رأياً ونقلاً، وأن مهمة الباحث في الفلسفة والمعرفة هو دلالات الفكرة النقدية في صحتها أو خطئها، وليس اعتبار ذلك الباحث أو الفيلسوف مؤلفاً لصالح أيدلوجيتة.
ولا حتى لصالح التاريخ الإسلامي حسب ظن القارئ الناقد، رغم أن حلاق ضمّن كتبه منظومة واسعة من الدفاع عن (القانون الإسلامي) الذي يختلط فيه التشريع مع التاريخ، بحسب لغة حلاق، تنصف المعرفة الإسلامية من الحصار والتجريم الاستشراقي، الذي هيمن على العالم وتمكن نفوذه من الوطن العربي.
ولذلك نحن اليوم في الرواق العربي بحاجة كبيرة، إلى مفهوم الثقة بالنفس أمام الكينونة الاستعلائية الغربية، ولكنها ثقة لا ترفض الفلسفة الغربية ولا تقدسها، وإنما تمهد الطريق الفلسفي الثالث للعالم.