التحدي التركي الإقليمي بين العاطفة و السياسة
مهنا الحبيل
30/1/2021
حسم التحالف التركي الإيراني، الموقف على الأرض بقوة، فيقضية استفتاء إقليم كردستان العراق، بعد أن أقر الانفصال، وأضحت قائمة الخسائر، تتصاعد أمام الحركة الكردية، في شقيّها بأربيل والسليمانية، أو أمام مجمل الحراك القومي الكردي، وهو ما شجع تفاقم الصراع، الذي تستفيد منه طهران في بغداد، أو في مركزها الإقليمي الكبير، كقوة أساسية صاعدة، توجه الأحداث الكبرى في المنطقة.
ولا يوجد شك في خطيئة الموقف الكردي، الذي انتهى إلى أن يكون مقدمة، تتهاوى بعدها أحلام الشعب الكردي، في أقاليم حقوق كاملة في دولها، كمكون أصيل في عناصر الشرق الكبرى، غير أن ذلك لم يكن موقوفا فقط، على استعجال ومراهقة الرئيس برزاني على الاستفتاء.
وإنما في حجم التوظيف، الذي أبحرت به الحركة مع المشروع الأمريكي، والذي رفع حظوظها، ليستفيد من عملياتها الميدانية، في سوريا وفي العراق، لتكون بديلاً عن القوات الإسلامية والعشائرية، في حسم المعارك ضد التنظيمات الإرهابية، فتَعزل واشنطن أي قوات ميدانية حليفة لتركيا، ثم تترك الحركة الكردية في مهب الريح.
لكن قبل ذلك، كان هناك توافق أمريكي إيراني دقيق، لا يزال قائماً، ضد أي توازن وطني، ممكن أن يحققه العراقيون، ككتل كردية وعربية سنية وشيعية مستقلة عن طهران، وبالتالي تُعدل إلى حدٍ كبير أو نسبي، العملية السياسية، التي زرعها الاحتلال الأمريكي، لتقسيم الشعب العراقي.
ولا يزال هذا التوافق، وهذه مسألة مهمة للغاية، متحالفاً في مركزية الشراكة بين واشنطن والمشروع الإيراني، وفي تثبيت هذه العملية منذ إسقاط بغداد، لأسباب تتعلق بقراءة كل منهما، لمصالحه القومية في معادلة الصراع.
وظلت أنقرة تتابع جسورها، وتعزيز مصالحها مع كردستان العراق، رغم أن العملية السياسية للاحتلال، كانت تشكل تهديداً يتصاعد على أمنها القومي، ولكن توسّع الغرب وواشنطن، في تكريس قوات البي واي دي، أقلق أنقرة كثيراً، ووتّرها، فقد كانت تراهن على أن تأمين المنطقة الكردية في تركيا، سيكون عبر إحباط مشروع الانفصال.
وكانت اللعبة الإيرانية مع النظام، قد أدركت معقل القلق التركي، فهي أول من سمح ببنية التأسيس العسكري ل بي واي دي (صالح مسلم)، وبالتالي دُحرج المشروع لكي يتسلمه الغرب، فحقق ميدانيا مصالح للنظام وإيران ضد الثورة، فقد كانت عمليات البي واي دي، تطوق الجيش الحر والثورة، وليس السلفية الجهادية، وفي ذات الوقت فإن المشروع استفز تركيا بصورة كبيرة.
ومع إخفاق وعود أنقرة في الموصل، في قضية تأمينها بعد إرهاب داعش، أمام إرهاب الحشد، ثم حلب ومذابح الروس الكبرى، وضعف إمكانياتها في التأثير المركزي على الميدان السوري، وتصاعد الارتدادات العكسية عليها، صَعَد موضوع انفصال كردستان العراق، الذي كان يعني تعزيزمشروع كردستان سوريا الانفصالي، فاغتنم الروس والإيرانيون هذا الموقف، وأُدخلت أنقرة في هذا التحالف، لكنه تحالف ثلاثي لا يؤثر على التحالف الخاص، الأقوى بين موسكو وطهران.
ومن المعروف والذي لا جدل عليه، أن تراتبية تأمين وحدة الأراضي التركية، هي الأولوية الأولى للضمير القومي التركي، سواءً كان إسلامياً أو علمانياً، عسكرياً أو سياسياً، ولعل سباق الأيام والساعات الأخيرة، الذي تأخرت فيه أربيل وتأخرت فيه أنقرة، جعل الجائزة ثمينة للغاية لصالح طهران.
فلو أن الاستفتاء أُعلن تحييده أو إيقاف أي مفعول له كليا، باتفاق ثنائي بين أنقرة وأربيل، لتحول الموقف إلى مساحة جديدة من تقاطع المصالح بينهما، وما جرى كان العكس كلياً، حيث تُرك المسرح للإيرانيين، باعتبار أن أنقرة تُراهن، على أن هذه التصفية للمشروع، ستضرب مشروع البي واي دي، وهذا يكفي.
وهو ما تحقق بالفعل، وأصبحت كل الحركة الكردية، في دائرة استنزاف، بعد أن ضُخم مشروعها، وخاصة بعد تولي الحليف الأمريكي عنها في ساعة حاسمة، غير أن هذا الواقع، ليس تأميناً استراتيجيا لصالح تركيا، فكيف ذلك؟
قد يخسر اليوم حزب العمال الماركسي المتطرف، أرض ودعم لوجستي يقدمه البي واي دي، والدول الغربية تحت الطاولة، كما هو الحال مع إيران حين تقتضي مصالح اللعبة ذلك، واتفاق طهران وأنقرة، في الخشية من أي إقليم كردي في دولتيهما، لا يُلغي أن طهران والنظام السوري، ظلا يعملان على قاعدة، دحرجة صعود القضية الكردية والتخلص منها، من أرضهم الى أراض تركيا.
وقد كان النفوذ والمصالح التركية والكردية العراقية، فاصلاً يحجز هذا الاستفراد، أما اليوم فمع بقاء بعض المصالح التركية، إلى أن شخصية أنقرة تتراجع فيها، عبر بعدين خطيرين، الأول قوة إيران المطلقة في بغداد، والزحف لتقليم المشروع الكردي، باسم أن هذه القوات في الحشد أو المؤسسات العراقية الطائفية، هي قوات الدولة القومية.
والثاني انقسامات كرد العراق، وحجم اختراق إيران الضخم لعمليتهم السياسية، التي كشفت عنه الأحداث، وطهران القوة الإقليمية المنتصرة في سوريا، والتي حسمت عبر ميلشياتها، وقيادة قاسم سليماني المشهد العراقي الأخير، هي من تتلاعب بمصير كردستان العراق، عبر العصاوالجزرة، حتى تروّض الإقليم كليا لسيادتها.
وانسحاب تركيا، باعتبار ما حصل ضمان، لأجل تأمين حدودها القومية، لا يضمن لها تثبيت هذا الأمر، فضلا عن أن تراجع شخصية تركيا الإقليمية، أمام صعود طهران، وتأثيرات الصفقة الغربية التي لا تزال قائمة، يجعل الوقت لصالح طهران، مالم يحدث اختراق نوعي بين أنقرة وإقليم كردستان.
إن تركيا اليوم، ليست بحاجة إلى مبادرة عسكرية، في كردستان العراق، وإنما قوة ناعمة، تكفل توحيد الفرقاء الكرد في العراق، تحت مشروع سياسي ترعاه، وشراكة اقتصادية، وتفعيل الجسور الاجتماعية، التي وحدها الإسلام بين الأتراك وبين الأكراد، خاصة في ظل نجاحات حزب العدالة، في أوساط الشعب الكردي في العراق، أو مواطنيه في تركيا، مقارنة بالروح العلمانية الاستئصالية ضد الكرد، منذ الرئيس أتاتورك.
وهذه الرعاية الجديدة، لا يتطلب منها أي حرب إعلامية أو سياسية مباشرة مع إيران، بات الأتراك اليوم ضدها، بعد تقديراتهم لتأثيرات الصراع المذهبي عليهم، ولفوائد تحالفهم مع إيران، مقابل الإحباط من موقف المحور العربي، الذي يقود حملة ضدهم.
وإن كانت إخفاقات تركيا العدالة ليس أسبابها فقط، مواجهة حلفاء ترامب العرب لها، لكن يظل هذا العنصر مؤثر جدا على المزاج التركي، كما هو في الخلاف الإعلامي السياسي الشرس، حول قضية حصار المدينة والضابط العثماني خير الدين باشا، وهي قضية أشعلت فتيل تعبئة، له جذوره الأعمق بين أنقرة من جهة، وأبو ظبي والسعودية قبل أزمة الخليج وبعدها.
وهنا يحتاج حزب العدالة وخاصة فريق الرئيس، أن يراجع المشهد بهدوء، وألا يُستدرج إلى ملاسنات إعلامية، ويُحافظ على توازنه المهم، فلقد حققت تركيا قفزة كبيرة في التوازن الإقليمي، حين نشرت قواتها مبكراً في قطر، بناءً على اتفاق الدفاع المشترك.
وساهمت في منع عمل عسكري مدمر، وهي قضية وثقها الشيخ صباح أمير الكويت، لكن تفصيل حديث وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون عنها، الذي ورد في بلومبيرغ في مقالة مطلع ديسمبر الجاري، وحديثه عن الرسائل، التي تلقتها الرياض من كوشنير، ضد موقف الخارجية، مهمة جدا، في شرح خطورة تلك الأبعاد، التي كانت ستعصف بالمملكة وقطر والمنطقة كلها.
وعليه فإن الموقف اليوم لتركيا إيجابي خليجياً، في الكويت وتطوير علاقاتها الجديدة المتوقع مع عُمان، كشراكة توازن لا هيمنة، فهذه أصلاً ليست واردة، أمام التواجد الغربي الضخم في الخليج، وأمام تجاذبات الوضع الاستراتيجي في المنطقة، علماً أن سلطنة عُمان، لها بعد خاص كونها القوة الإقليمية العربية الأعرق، في منطقة الخليج.
فهذا التوازن، الذي ارتاحت له أوروبا، لقلقها على مصالحها في الخليج، من مشروع ترامب السابق، لا تزال تستفيد منه تركيا، فضلا عن قناعة الشريك والحليف القطري وتطور علاقاتهما، ولذلك تركيا ليست بحاجة للتجاوب مع أي حملات إعلامية مستفزة، ولها حق الرد مؤكد، كأي دولة قومية.
لكن المبالغة في هذه الملاسنات، وخاصة عبر موقع رئاسة الجمهورية يضر بها، والمنطقة تتوجه لمرحلة انتقالية خطيرة، نتمنى أن تعبر بسلام، وتعود فرص التواصل مع الرياض،إن قدّر للمنطقة أن تنجوا مما هو أشنع.
الجانب الثاني الحفاظ على التعاطف الإسلامي العربي، من خلال الموقف الإنساني في سوريا، إلى المساهمة في القرار الأممي لصالح القدس، فضلا عن المساحة الإنسانية والفكرية، التي أتاحتها تركيا للإسلاميين المضطهدين في الأرض، ممكن أن يستمر، دون تحويله كنظرية الهام عاطفي تجسدها صورة البطل ارطغرل.
فالواقع السياسي مختلف عن روح الدراما، ولذلك يحتاج العرب والترك في فريق العاطفة الحادة، أن يسعوا إلى تنظيم المشاعر، لتكون الرابطة أقوى وأعقل ولا يبالغ فيها،فهذه المبالغة قد تستخدم ضد علاقة تركيا بأخوتها العرب، أو تتسبب بردات فعل، كالذي جرى ما بعد العراق وسوريا، لكن لم تسمع كل أصواته اليوم.
وأمام حزب العدالة تحديات كبرى، ونجاح الرئيس أردوغان في تصحيح العلاقة مع ألمانيا، يعطيه زخماً جيداً، خاصة في مرحلة، يحتاج أن تبني فيها تركيا العدالة، منهجية تحييد ومصالح، وبعض الخطب العاطفية تضر بها كثيرا، فالهدوء في العلاقة مع محبيها العرب، وعدم التوسع في استدعاء الصراع العربي التركي المر، والبناء على لغة التوازن والوحدة الأممية ومصالحها، أسلم لتركيا وحلفائها العرب، بما فيهم الإسلاميين.
ومن حق تركيا، استعادة البعد الحضاري، والهوية لشعبها مع الدولة العثمانية، والمشتركات الإسلامية الفكرية، لكن طرحها كمنظومة علاقات سياسية واجبة على كل المسلمين، هي مسألة خطيرة للغاية، وما جرى مؤخراً، من استدعاء صدامات دموية بين الأهالي والشعوب، في مناطق عربية مختلفة مع سلطات ومفارز الجوش العثمانية، في مواجهاتها لخصوم سياسيين في مناطق عربية عديدة، يجب أن يعزز الحذر في قضية بسط هذا التاريخ كمرجع.
فهناك ثغرات كبرى، لو سلط عليها الضوء بخطاب يسعى لنقض علاقات الأتراك واخوتهم العرب، والتي رابطها هو العهد الرسالي الإسلامي لا تجارب التاريخ، منذ بني أمية حتى اليوم، فإن هذا الخطاب سيستخدم كل حوادث التاريخ الدموية، لتفتيت هذه العلاقة لمصالح الغرب، وإسرائيل وإيران ببعدها الطائفي لا الشرقي المسلم التضامني، الذي ندعوها اليه.
خاصة في ظل تحالف محور خليجي مع ترامب والسياسات الإسرائيلية، وهي دعوة أوجهها من خلال فهمي على الأقل لتاريخ الخليج العربي، فبنية العلاقات الهادئة الواثقة، بين العدالة التركي والعرب، كانت تطرح الهوية الإسلامية المشتركة، والاتحاد الحضاري والسياسي المصلحي، لأطراف الأمة وليس تقديس التاريخ العثماني، وقد كانت نظرية موفقة، وهو ما نحتاج للعودة اليه اليوم.
وعودة إلى قضية كردستان، وموقع تركيا الإقليمي، فأنقرة لديها فرصة، أن تسترجع قوتها وحضور شخصيتها، في كردستان العراق، الذي سيتحول مباشرةً، إلى قوة اجتماعية لها أصول وجذور بين الكرد والترك، وبالتالي العودة إلى مشروع المصالحة التاريخي، بين متمردي كرد تركيا والدولة، عبر تحييد الصراع العسكري، ثم الأمني، ثم صناعة أرضية سياسية لهذا الاتفاق، وهو ما يؤمن استراتيجيا الوحدة الوطنية في تركيا.
هنا ستعود تركيا بمكسبين رئيسيين، الحليف الاجتماعي والسياسي المرتضى لشعوب المنطقة، والذي سيُعيد تموضعه للانسحاب، من التدخلات التي أضرت به، وسيحصد مصالحه سياسيا، والثاني الروابط الاقتصادية، والإعلامية السياسية، التي يعيد بها جسوره مع شعوب الإقليم المباشر، سواءً كانوا سنة أو شيعة أو مسيحيين.
خاصة حين ينجح في كردستان العراق، ويُعيد إلى المنطقة مفهوم حزب العدالة، الذي يدعو شعوب الشرق، إلى ميثاق الأخوّة والصداقة، ومصالح السياسة والتنمية الكبرى، وليس التبعية المطلقة لأستانة جديدة.
وهو الشعار الذي يستخدمه خصوم الأمة والغرب، لتوسيع الصراع وهدم ما تحقق من جسور، منذ تولي العدالة التركي بروحه الاسلامية الحكم الجمهوري الديمقراطي، بحسب رؤيته الفكرية المعلنة، وهذا يحتاج تجديد عزيمة الحزب، وتنظيم ورشة نقدية لفترته رئاسةً وحكومة، وتعزيز اتحاده المهم، قبل انتخابات 2019 المفصلية، التي ندعو لهم فيها بكل توفيق، كبلد مركزي شقيق لكل الشرق المسلم.