مهنا الحبيل
25/9/2022
ها قد غابت الشمس عن (صاحبة الجلالة) ملكة الأرض التي كانت لا تغيبُ عنها الشمس، ولكن نور الحقيقة حجب شمس المستعمرات رويداً رويداً، فَخَلَفَها من خلفها في أمريكا وأوروبا وحتى ورثة القيصرية الروسية من البلشفيين الحمر، لكن بقيت بصمة التاج حاضرة، وكان من الطبيعي ومن الحق المطلق، أن تستحضر شعوب الشرق، إرث العبودية السياسية التي صاغتها لندن ضد الإنسان الآخر.
عبودية سياسية تعني احتباس الأرض وشعوبها، لمصلحة الحكم البريطاني، ولم تختلف نزعة هذا الحكم الاستعمارية حتى بعد الثورة الإنجليزية على التاج وإسقاط الملك جيمس الثاني، وكان المشترك بين حكومات ما قبل الثورة وما بعدها، هو كيفية الهيمنة على مصالح بريطانيا العظمى، في مستعمراتها السابقة، وفي حصيلة الخرائط التي أورثتها للشرق حتى اليوم.
لكن النقاش الآخر الذي بُعث أيضاً في زوايا الشرق المنكوبة، هو أن الديمقراطية البريطانية، نجحت في العبور إلى الاستقرار السياسي، واحتضنت عدداً من شعوب مستعمراتها، ودمجتهم حتى باتوا هم الأكثر حضوراً في شوارع لندن، فنُصّب عمدتها (الباكستاني الأصل) تحت عرش الملكة، كما أن بعض هذه المستعمرات لم تخض مواجهةً دموية، في رحلة مقاومة الاستعمار كما جرى مع الفرنسيين، وتعامل العقل الإنجليزي بمكر سياسي، من خلال غزله مع أنظمة استبداد وريثة، فيما أحسن البعض الإفادة من قرار الاستقلال وأبقى الدولة مطمئنة، مع معادلة شراكة شعبية محدودة.
أما في داخل بريطانيا، فإن المراغمة الديمقراطية العتيقة استطاعت أن تحقق توازناً سياسياً لصالح الشعب، وعليه فالصوت الانتخابي البريطاني، واليد الشعبية المشاركة، بقي لها حظها الكبير، الذي يفرزها حتى عن تجربة الأمريكيين، وأوروبا، وإن بقيت رياح الإرث الديني للصراع المسيحي قائمة في داخل خارطة التاج البريطاني، وعودة مطالبات الاستقلال في أسكوتلندا وايرلندا وغيرهم.
وهو جدل مختلف عن تقديرنا الشرقي في إرث ما قبل الملكة وما بعد توليها، وفي فهم المعادلة التي حظيت بها اليزابيث الثانية، كتكفير عن شراكة عقود طويلة لما يُسمّى بحكومة صاحبة الجلالة، في اضطهاد شعوب المعمورة تحت شمسها، أو حروب نفوذها أو خبايا مخابراتها.
فالسجل الأخير كانت فيه اليزابيث مبتعدة عن دولاب السياسة، وتروّج لندن لبرتوكولات قصر باكنجهام، في نموذج ملكة لطيفة تبعث برسائلها الإيجابية لكل شعب، ويتمسّك بها الإنجليز في ديمقراطية قوية، لعب حياد اليزابيث في تكريسها دوراً كبيراً، هنا نفهم التعاطف والتقدير في ساعة الوفاة، وهو حتى لدى كتلة من متعاطفي اللحظة ليس مرتبطاً بمصداقية هذا الحياد، فإرث التاج موغل بشدة في إثم بريطانيا العظمى.
ومنتهى الأمر أن التأمل الشامل، بما فيه مساحة مواطني مستعمرات بريطانيا داخلها، وبما فيه حق المواطن الإنجليزي الذي لم يصل لمعشاره وطن من أوطان المسلمين، ورغم تآمر لندن في هذا المصير، لكن سؤال الأمم اليقظة دوماً يدور، حول أين نجح خصومنا في نهضة حضارتهم وقوة دولتهم، وهي الدولة الوطنية من داخلها وعبر حقوق شعبها الآنية، وليس بالتغني بالحضارات التاريخية التي اسقط المسلمون قيمها بأيديهم.
هنا الصفحة التي نحتاج لفتحها، في قراءة التاريخ البريطاني، بما فيه، فكرة التحالف بين الثورات وما قبلها ضد الشرق القديم، فقضية نجاح الإنجليز في منح حقوق إنسانية ومنابر لملاعنتهم من قلب لندن، مع وجود جسورهم مع المستبدين تحتاج للفهم الذكي، ولإدراك شعوبنا العربية لخلاصة الوعي الإنساني للحقوق الدستورية، بين الثورة الإنجليزية والتاج المحايد، التي يمكن أن يستثمرها الشرق أو أياً من أممه.
وعليه نفهم الموقف الشرس ضد حرية المستقبل المسلم، التي تجدها عميقة حتى في الإعلام الإنجليزي، والذي يهذي عن حق الإنسان والحريات في الشرق، لكن عند اللحظة الفاصلة تجده متحدٌ ضمنياً مع المستبد، خاصةً حين يكون هذا المستبد جداراً يحمي مصالحهم، ولا بأس حينها من تركيز الخطاب الحقوقي لصالح مساحة الإلحاد والمثلية أو السلوكيات اللبرالية الشخصية، التي لا تضمن أي دعم لقوة قرار المواطن وحقوقه السيادية، أو حماية الشعب من عذابات المستبدين.
فهنا مسألة التعزية البروتوكولية أو حتى المشاعر الإنسانية، التي قد يشاركها المقيم في الغرب لموطنيه أو تقديراً لما وجده من حقوق ومساحة لإنسانيته، في قوانين الدولة، لا تُسقط الحقيقة الكبرى أن الغرب الاستعماري كان ولا يزال قوة قهرٍ شرسة لإنسان العالم الجنوبي، ولا يُسقط ذلك أي مدارات تحالف مع المستقلين أو المنصفين أو المعتدلين بينهم، فضلاً عن الحوار الأخلاقي، لكن قبضة المركز الغربي لا تزال تخنق المشترك الإنساني.