الجذور التاريخية والعقائدية لداعش الأميركية
مهنا الحبيل
ليس سهلا أن تُنتج السينما الأميركية فيلما بالتجسيد التصويري المذهل للوجدان والبصر كفيلم “ميلاد أمة” الذي صدر حديثا (أكتوبر/تشرين الأول 2016)، والذي أخرجه وكان بطله نيت باركر وهو كاتب السيناريو أيضاً، مما يعني أن باركر عاش وجدانياً هذا الفيلم قبل أن ينفّذه، وهو ما أراه -كقراءة فكرية- أبرز أفلام الصراع الاجتماعي الديني في التاريخ الأميركي، والذي قد تتكرر صوره في العالم الإنساني المعاصر.
لكن الفارق المهم للغاية في الفيلم أنه مستوحى من أحداث واقعية جرت قبل عام 1831، حيث الثورة التي قادها المبشر المسيحي الأفريقي الأميركي نات تيرنر على المُلّاك البيض، والتي تعتبرها الولايات المتحدة الأميركية تاريخاً طُوي واختُتم بالميلاد الحقوقي بعد كفاح مارتن لوثر كنغ. وبحسب ناقد بارز في صناعة الأفلام الأميركية، فإن الفيلم يحقق مدلولات خاصة لكونه تزامن صدوره مع انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
وهناك سؤال حول نجاح ختام الفيلم في إظهار شخصية الطفل الأفريقي الأميركي الذي شهد إعدام قائد الثورة المبشر الأفريقي المستعبَد تيرنر، بأن الطفل بات جنديا في الحرب الوطنية الأميركية ضد الجنوب الذي مثّل أقسى درجات العبودية العنصرية، وكان انتصار الشماليين بقيادة إبراهام لينكولن فرصة لميلاد هذا التاريخ للأمة الأميركية، ولذلك رُبط ختام الفيلم بهذه اللقطة لعلها تخفف من آثار الوقع النفسي الهائل والحقائق الكبرى لأجداد الأميركيين البيض، وخاصة تكتلات المحافظين المتعصبين، لكون ميلاد هذه الأمة الجديدة يمسح آلام الماضي.
وهنا السؤال الكبير الذي سنعيده في ختام المقال: هل انتهت بالفعل جذور ذلك التوحش العنصري المقرون بالتدين المسيحي المهاجر لحريته في العالم الجديد، وظاهرة الرئيس ترمب الذي لفت الى تزامنها الناقد الأميركي هي حالة شاذة اليوم، أم إن الأمر ليس كذلك وهذه الجذور ظلت موجودة قبل أن تنفجر الأرض الأميركية بقوتها من جديد؟
“هل انتهت بالفعل جذور ذلك التوحش العنصري المقرون بالتدين المسيحي المهاجر لحريته في العالم الجديد، وظاهرة الرئيس ترمب الذي لفت الى تزامنها الناقد الأميركي هي حالة شاذة اليوم، أم إن الأمر ليس كذلك وهذه الجذور ظلت موجودة قبل أن تنفجر الأرض الأميركية بقوتها من جديد؟”
يحكي الفيلم قصة الطفل “نات” الذي هرب أبوه المستعبَد من المعسكر الخاص بالمستعبَدين الأفارقة لدى إحدى عوائل البيض، وكان سبب هروبه أنه شاهد ابنه “نات” وقد فاتته وجبة الطعام المحدودة التي تُقدم لأطفال المستعبدين وبات طاويا، فأخذ سلةً جمع فيها بعض الغذاء من مزارع مجاورة، فوجدته مليشيات البيض العنصريين الذين كانت مهمتهم ضمان السيطرة الأمنية وإبقاء المستعبدين تحت سيطرة القوة البيضاء في معسكراتهم، ففرّ منهم وبقي “نات” يتيم الأب رغم أن والده ما زال حيا!
ومن المفارقات أن سيدة من بيت أبيض من الملّاك أظهرت رحمة ولطفا بـ”نات” حين رأته يقرأ في السفر المقدس للجماعة المهاجرة، وهنا نستذكر أن جزءا رئيساً من هجرات أولئك البيض كانت جراء الصراع البروتستانتي/الكاثوليكي في العالم الغربي. المهم أن الطفل “نات” احتضنته ضمنيا هذه السيدة، وشجعته على التوسّع في استيعاب الدين المسيحي وتم تعميده، رغم مشاعر الاستقذار والاستعلاء التي شعر بها زوار الكنيسة البيضاء في ذلك اليوم.
شبّ “نات” وهو يتشرب حكايات وترانيم جدته الأفريقية حيث كانت جذور المستعبدين الأفارقة بين مسلمين ووثنيين، وعَلقت صور المستعبدين وأغاني رقصهم القادمة من أفريقيا والتعويذة الوثنية في مخيّلته كجزء من استقلال الإنسان الذي استعبده المهاجر الأبيض الأميركي، ووسم بها صليب الراحلين.
وبقيت لديه تأثيرات كلمات المسيح التي يحاول أن يعالج بها تلك الجروح الضخمة والمروعة لأهل المعسكر الأفريقي المستعبد، وشعر بأن الله الذي بعث هذه الكلمات هو رب الجميع ولكنه ربُّ المستضعفين أكثر، وبقيت هذه الحشرجة تدور في نفسه، كيف يُسقى المستعبَدون مُرّ العذاب، وأوقح العبودية باسم المسيحيين المهاجرين.
كان المعسكر أكواخاً خشبية بالية، يأوي إليها المستعبَد والمستعبَدة بعد أعمال شاقة أو خدمية في المنزل، ولا يُسمح لهم مطلقاً بأي اقتراب من مساحة البيض إلّا في مجال خدمتهم ووسط أسواط ضرب وتعذيب، ولكن أسوأ من ذلك كله تعرض النساء -بما فيهن الفتيات الصغيرات- لاغتصابٍ منظم، حيث يُسحبن إلى منازل البيض، وأحيانا تمارس عليهن سادية وحشية، فيعدن وقد انتُهكت أعراضهن وكُسرت عظامهن.
كان “نات” يشهد ذلك ويكبر عمره بين المعسكرين، وكان أحد الأطفال من ذات البيت الأبيضالذي يملكه شبّ معه، فتحولت الرحلة مع البيت الأبيض إلى علاقات مشتركة لقدرة “نات” على التفاهم والوساطة، وهكذا تم تسهيل مهمات الطفل الصديق الذي شبّ اليوم قريبا مع سيده في قصر البيض.
“ما يهمنا هنا هو أصول وحقائق قصة الفيلم المؤكدة بالمجمل، والسؤال الكبير الذي طرحناه عن صناعة التوحش الديني الإرهابي والعنف المسلح والعنصرية والكراهية التي سادت في تاريخ المجتمع الأميركي الأبيض، وليس ذلك من قبيل التقليل من حركة الحريات ونتَاجها ولا التفوق الحقوقي المدني ولا الدسترة القانونية لصالح الفرد”
وفي جولة عند منصة بيع مستعبدين جدد، وقف المسوّق في سوق النخاسة عند شابة أفريقية مرتجفة جُلبت حديثاً، فضجّ صوته الكريه بالمزاد عليها، ثم شق الأسمال التي عليها ليكشف عن صدرها فزادت صرَعاً، أشفق “نات” عليها وحاول -بدبلوماسية ذكية- إقناع سيده بشرائها لعلها تقع في رعاية أمينة في معسكرهم تخفف عنها بعض البأس، نجح “نات” في ذلك فعلا ثم تولتها أمه وجدته، ودربتاها لتكون في عمل ضيافة بعيداً عن مساحة العنف قدر الاستطاعة، وجرى بين المستعبديْن نهر الحب فكانت زوجته.
بات “نات” يتنقل مع سيده الذي استفاد منه كواعظ بين السود، لكن ليعظهم بقدر ما يضمن استمرار مصالح البيض ومعالجة المتمردين منهم لإقناعهم فكريا باستئناف العمل حتى لا يفقد السيد الأبيض أموال قيمتهم.
رأى “نات” صورا غاية في التوحش، ومنها مشهد المضربين عن الطعام من قسوة ما يجدونه، حيث يقف الراعي الأبيض عليهم أثناء قطف المحصول يضربهم بالسوط، وكانوا قد طلبوا سيد “نات” لمعالجة مشكلة إضراب المستعبدين الأفارقة لديهم بعد ما عاشوا تحت هذا التوحش، أُدخل “نات” وسيده عليهم وقد صُفّدوا بالحديد، ولكيلا يموتوا من الإضراب قام السيد الأبيض العنصري بتكسير أسنانهم بالمسمار الضخم والمطرقة، ثم فتح مساعده أفواههم عنوة وقذف الطعام فيها.
وقبل العودة من جولته لاحظ “نات” طفلة بيضاء تقبض على حبل وتلعب في الحقل، ثم أدار وجهه فإذا الحبل في آخره قد طُوقت به طفلة أفريقية وُضعت في مكان الكلبة ودُرّبت على القفز كالحيوانات لإسعاد هذه الطفلة البيضاء. أشعلت الصدمة الثورة في وجدانه لكنه كتمها، ثم وقف واعظاً مع سفره يرسل كلمات روح وإيمان، مما يظنها بقيةَ رسالة المسيح التي زوّرها البيض الغربيون العنصريون.
وحين عاد فوجئ بأن صديقه الخاص قد أُخِذت زوجته وتمتع بها سيدٌ أبيض، وكاد الرجل يجنّ ولكن “نات” لم يستطع منع الجريمة، وحينما حاول أن يوصل رسالة احتجاج هادئة غضب عليه سيده نفسه، ثم صفده وألهب لحمه بالسوط حتى كاد أن يموت، جُلد المبشر المسيحي الأسمر الذي عمّده السادة البيض لمصالحهم.
وتحت كل هذا القمع أصبح “نات” على مشهد اختطاف زوجته واغتصابها جماعيا بسادية متوحشة من ثلاثة رجال بيض، ثم ألقوها حتى كادت أن تهلك، ولا يوجد أي قانون يحمي الأفريقي المستعبَد مطلقا أو يعطيه أيا من حقوقه. أشعل بعدها “نات” ثورته التي انتهت بعد أن قَتل في معسكر البيض وتوسع حتى وصل نساءهم المسالمات، ثم اعتُقل بعد إخماد ثورته وأُعدِم كل محيطه الأفريقي حتى من لم يشارك من النساء، وشُنق في مجمع يهتف بلعن “داعش” الأفريقية وهو يحتفي بـ”داعش” البيضاء الغربية.
ما يهمنا هنا هو أصول وحقائق قصة الفيلم المؤكدة بالمجمل، والسؤال الكبير الذي طرحناه عن صناعة التوحش الديني الإرهابي والعنف المسلح والعنصرية والكراهية التي سادت في تاريخ المجتمع الأميركي الأبيض، وليس ذلك من قبيل التقليل من حركة الحريات ونتَاجها ولا التفوق الحقوقي المدني ولا الدسترة القانونية لصالح الفرد، ولا النيل من قيم المساواة والمواطنة التي نجح فيها الأميركيون بنضال حقوقي صعب، شارك فيه البيض المنصفون ولا يزالون.
“إن بعض العسكريين من داخل المارينز كانت توكل إليهم مهام تحفيز الجنود كنسيا بروح الرسالة التبشيرية التي تصاحبها كلمة الرب في قتلهم للشعب العراقي، فهل “داعش” حالة خاصة بالمشرق؟ أم إنها حكاية الفكرة المنحرفة المتطرفة التي تستبد باسم الدين والأمة العليا أو تفجرها المظالم؟ ”
لكن اختيارنا لمصطلح “داعش” هنا ليس يعني التنظيم المعروف بقدر ما هو اليوم يعني مفردة يقصد بها تحوّل التوحش الديني إلى إرهاب مسلح، وهو استقراء من زاويتين في الحالة الأميركية: زاوية أن التوحش الأبيض الأميركي كانت فيه مشتركات خاصة في قضية التدين، فتلك الجماعات الإرهابية في الريف الأميركي ذات تدين مسيحي.
كما أن كونها حركة انفصال ومواجهة من داخل المساحة الدينية الكنسية يشير إلى قضية “داعش” وكيف تحوّلت داخل الغلو السلفي ثم السلفية الجهادية، وقد كان إيمانها محصوراً في مواجهة أمة أهل السنة الضالة والطوائف المرتدة، أي صراع الفكرة الدينية. حيث كانت قضية الغلو السلفي هي مطاردة المسلمين لتصحيح عقائدهم ولو بالتحالف مع أهل الكتاب (أميركا) التي استفادت من هذه الفكرة لتدفق مصالحها، قبل أن تنفجر الفكرة في داخلها وتتمرد على توظيفها.
والزاوية الثانية أن هذا الغلو اشتعل مسلحاً بعد لحظة استبداد متوحشة، كان كما في حياة نات تيرنر بعد بلوغ البغي العنصري مداه. إنها منظومة أفكار على الصعيد الإنساني تحتاج إلى تركيز ليتبين العالم كيف يُتلاعب بمصيره، وتقام حروب على شعوبه باسم مكافحة ظاهرة داعش التي تتكرر في كل مذهب ودين ينحرف عن خطاب الفطرة والسلام الذي جاءت به رسالة الأنبياء الصادقة، حين يتعرض لاستفزازات عنيفة.
ويبقى السؤال الآخر: هل بروز هذه الظاهرة من جديد ممثلة في الرئيس ترمب والقاعدة الشعبية المؤيدة له، وعودة تأثير تلك الأفكار في المنظرّين حوله -الذين حولوّا اليوم تلك العنصرية مع الأفارقة المستعبدين إلى أمة الشرق المسلمة- هي قضية مفاجئة طرأت بعد نجاح ميلاد الأمة الأميركية الجديدة؟ والجواب أن هذا الإرث كانت تُقرأ زواياه في حروب الرئيس جورج بوش الابن، حيث حضرت روح ذات الكنيسة التي عاشت في الجنوب مع الجيوش الأميركية في حرب العراق.
بل إن بعض العسكريين من داخل المارينز كانت توكل إليهم مهام تحفيز الجنود كنسيا بروح الرسالة التبشيرية التي تصاحبها كلمة الرب في قتلهم للشعب العراقي، فهل “داعش” حالة خاصة بالمشرق؟ أم إنها حكاية الفكرة المنحرفة المتطرفة التي تستبد باسم الدين والأمة العليا أو تفجرها المظالم؟ فماذا عن روح “داعش” أو نموذج “داعش” الذي تقدمه المنصات العالمية كمكافحة للإرهاب، والحقائق والأرقام تشير إلى ضحاياه الأضخم والأكثر؟ وهل نحن اليوم بصدد بسطه على العالم الجديد لإحلال “داعش” الغربية مكان “داعش” الشرقية؟