مهنا الحبيل
2/4/2023
سوف يبرز عندك دوماً، السؤال المتكرر في فلسفة روسو، وهو البحث عن قيم الطبيعة، والمقصود هنا في فلسفة المعرفة الإسلامية هي الفطرة التي وُلد العالم متخلقاً بها، هذا العالم إنساناً وحيواناً ونباتاً وجماداً، يدور حولها روسو بكل قوة وحيوية، ويحرث في الكتب وفي تأملاته المستمرة، ولكنه يسميها الطبيعة، وهو لا ينكر أن هناك خالقاً ورائها، ولكنه يحاول أن يبتعد عن لغة الدين، وإلزام الكنيسة بمصطلحاتها، حتى لا يقع في تزكية القوة التي يسعى لهدمها وهي دين القيصر المستبد.
هنا تدرك بعمق هذا الجوهر الغائب وإن حضر في بعض ربوبيات روسو، ولكن هذا التيه عن خطاب الفطرة المحدد والذي تميزت به الرسالة الإسلامية، دفع روسو للتطرف في بعض رؤاه وتوازنات تأمله، وخاصة عند صعود ثورات الغضب في ذاته، على الانحطاط الاجتماعي في شعب فرنسا وجمهورية جنيف، والذي مكّن للظلم السياسي والاجتماعي، الذي استبق ثورات أوروبا، وهنا مقاربة مختلفة ومتفقة مع تاريخ المسلمين.
فالمسلمون حفظ الله لهم في ختام النبوات، الدستور الرسالي القرآني اليقيني في فهم طبيعة البشر، وسنن الأرض والفلك، وتدافع الأمم، وأسرار الفطرة في الخلق منذ الميلاد، حتى الممات، بل وفيه ما يُفسّر الدوافع والسلوك، وإن كان ذلك لا يتحقق، دون تفعيل التدبر والتأمل، الذي نجحت فيه الحضارة الغربية.
ولكنها تاهت في مرجعيات ما بعد المادة والتجربة، حين أنكرت الروح والعمق الوجودي لقصة خلق الإنسان، فتخبطت في جوانب خطرة وحسّاسة، ثم جاءت فلسفة ما بعد الحداثة، لتبني على الفراغ والتخبط الحداثي، الذي انقطع عن التفسير اليقيني لوصف الإنسان ورحلته في روحه.
هذا الجوهر الذي عطل المسلمين التأمل فيه، من خلال رؤية الكون وأثر هذا الكون وعناصره، بين الأمم القديمة والحديثة، هو ما كان يحتاجه كانط وروسو وغيرهم من فلاسفة البحث عن الفطرة والحقيقة الغائبة، وهو المسبب الأكبر، لضياع الإنسانية في مصنع التوحش الرأسمالي الغربي، أو الشيوعي المادي فحوصر العالم، بين فكي الكماشة الشرسة ضد الفطرة والتقدم الأخلاقي للأمم.
ووفقا لهذا المنظور يؤسس روسو لمنهج الرضاعة الطبيعية منذ الميلاد، التي يؤكد على أهميتها، وهو هنا في (إميل) ينتقل الى الطبقة الثرية، في مؤشر لانشغال روسو المستمر بتفاوت الطبقات، حيث قرر سلفاً أن إميل من هذه الطبقة، وهو مدار مهم لفهم هذا الصراع الداخلي في المجتمع، وفي أفكار روسو عند ميلاد العقد الاجتماعي.
ومع مناشداته السابقة للأم بأن ترابط في ارضاع وليدها، إلا أنه يتعامل مع الواقع الذي يسري في المجتمع، ولذلك يركز على حسن اختيار المرضعة، حتى في تفاصيل حياتها، واقترانها بالطبيعة، ولذلك يُقدّم الريفيات على ساكنات المدن لكون غذائهن أقرب للطبيعة، ويتوقف روسو عند حكمة أن حليب الرضاعة في الأيام الأولى شفافٌ أقرب للماء، لأن هذا ما يحتاجه الطفل في تهيئة أمعائه.
ومع أهمية الجانب الأخلاقي الذي يطرحه روسو، فهو يقارب بيئة الإرضاع، في تاريخ العرب المسلمين، وفي حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، سوى أن هذه العلاقة في الإسلام في الرضاعة فوق الصداقة، فهما أمه وأباه من الرضاعة، وهذا يعني أن الروح الدافئة الطبيعية، التي ينشدها روسو، كانت ماثلة في حياة المسلمين الأوائل، واستمرت في بعض بيئاتهم، ويعترض روسو على إضافة النبيذ إلى حوض تحميم الطفل، ويقول أن الطبيعة لا تولد بالخمور ولا تألفها، وهذه أيضا نقطة مهمة في مقاربة روسو للفطرة الإلهية، ولكنه يسمي كل ذلك بالطبيعة.
يواصل روسو تطرفه المظنون في انفتاح الطفل على الطبيعة، ويتحفظ على البيوت النظيفة التي لا تغشاها الحشرات فلا يتعرف عليها، بل إنه يرى أن تَعرّف الطفل حتى على عالم الحيوان المؤذي، يقوي معرفته به ووقايته منه، وإن كان روسو نفسه قد قدم لمعادلته، بأن تَعرُضَّ الطفل لأذى يؤدي بهلاكه وارد، وأن ذلك من أصول الطبيعة، حتى لو فقدنا عدداً كبيراً من الأطفال في هذه العوارض، فمن يبقى سيكون أقوى.
مرة أخرى تشعر بان روسو ينزع نزعاة غلو، تحتاج لتهذيب وإعادة تأسيس، تنظم أفكاره حول فلسفة الطبيعة في حياة الطفولة والإنسانية، وهو ترشيد مركزي وفرعي معاً، حين يغيب عن الفيلسوف، تغيب عنه الحقيقة والإنسانية معاً، رغم أن روسو يبدوا أفضل كثيراً من سواه من فلاسفة النازية أو الماركسية أو الحداثة الرأسمالية، فكلهم كانوا مركزاً إلهامياً لتدمير العالم الجديد.