Categories: مواد فكرية

الحداثة وإهانة السيد المسيح

الحداثة وإهانة السيد المسيح

قراءة فلسفية لحفل العشاء الأخير لأولمبياد باريس

مهنا الحبيل

أخذتُ وقتاً يكفي لكي أطّلع على المادة المنتجة، للمشهد المعتنى به في افتتاح أولمبياد باريس، المخصص لإعلان ما يشبه بياناً تاريخي تبنته فرنسا التقدمية، بصفتها أحد أهم عواصم الحداثة الغربية الرأسمالية، بجذرها العقائدي كمركز ديني كوني، يعلن سيطرته على العالم، وراجعتُ المشهد بتركيز حتى تكون الرؤية النقدية مبنية على مادة صلبة ذات دلالة واضحة.
هنا ثنائية مهمة للغاية، في هذا البيان:
الأول الاستهزاء بالسيد المسيح كرسول يمثل مفهوم النبوات، وعلاقتها بتاريخ العالم منذ وجوده، وليس فقط في رسالة السيد المسيح عليه السلام بذاته، فأهم مركز عقائدي وصلت له الحداثة وشرحناه في كتاب جدل ثالث، هو مفهوم الإنسان الإله، هذا المفهوم تجلى في هذه اللوحة بقوة، فهذا الكائن المثلي المتنوع المضطرب سلوكياً، بكل الصور الشائنة المتعددة الشذوذ هو (السيد المسيح) فلا إله ولا نبوات، وإنما الإله الجديد هو الشهوة والنزوة، وهي الثنائية التي حلبت منها الرأسمالية العالمية حياة الناس ومقدراتهم المالية.
وكانت الحافز الضخم المتتالي، المدعوم في مركزها الغربي بين واشنطن وباريس، والتي تسخّر بشراسة لا حدود لها، لصالح تسليع قدرات الإنسان، ثم تسليع ذاته وأطفاله.
إذن بيان باريس أعلن رسمياً، سقوط أي حق أخلاقي وهو العنصر الثاني في رسالة المشهد، ورفضت (باريس الأولمبياد) اي مبدأ احترام أساسي كفلته الشرائع والقيم في تاريخ العالم كله، في حق احترام معتقد الضمير، ونلاحظ هنا مسألة مهمة، وهي أن هذه الاستباحة والطعن الشرس، والابتذال المنحط في تصوير الحواريين أو المحيطين بالسيد المسيح، في رمزية لوحة دافنشي التي سبق أن رأيتها عن قرب، وكتبتُ مقالا عن لوحتها الأصلية، خلال زيارة سابقة لمعرض موسمي في قصر باكنجهام في لندن.
هذه الاستباحة الهجومية قُدمت في منصة المثلية القهرية والجندر الإلحادي، الذي تطارد بعض سلطات الدول الغربية كل الأسرة البشرية من دينيين وغير دينيين، وتشرّع قوانين حتى في الأمم المتحدة لعدم نقدهم أو التعرض لهم!
فيما بيان أولمبياد باريس، يطعن في الدين والنبوات ويسخر من الأسرة الفطرية، ثم يعلن نهايتها، وأنه قرر تحويل إرثها لمكتسبات الشذوذ المطلق، فلاحظ هنا مقدار الهجوم الشرس على المركز الأخلاقي في الأرض واستفزاز كل شعوبه.
ومن المهم أن نقف عند لقطة عابرة رمزية طافت حول الطفولة، وهي ترمز إلى التمهيد لفرض سلوكيات الشذوذ الجنسي ومعاشرة الأطفال شذوذياً، ولكنها لم تكشف عن تشريع السادية ضدهم في المشهد، وهي القاعدة النهائية لفلسفة ميشيل فوكو وعقديته في إعلان مرجع النزوة في الذات البشرية والخضوع عند سلطتها.
(راجع ما كتبناه عن فلسفة فوكو في هذا الشأن في المصدر السابق وفي كتاب طاولة مستديرة)
إن مستوى التمهيد للترويج للسادية ضد الأطفال، تقدم كثيراً، ففرض المثلية على الأسرة، ونزع مرجعية الآباء والأمهات على بنيهم، من كل الديانات، وتفويض الدولة اختطاف الطفل في لحظة قهر لوالديه، وإغراء مخادع للطفل بعد التشكيك في جنسه، تحت الضخ الإعلامي العاصف، ثم قذفه في المشفى (الرأسمالي) ثم إعطائه كم هائل من الهرمونات، ثم استئصال أعضائه الجنسية، وهذا لم يكن سائغاً من قبل في كل العالم، حيث كانت الأسرة الإنسانية تتمسك بفطرتها، تماماً كما تتنفس الطبيعة الخضراء في بيئتها، اليوم أصبحت هذه الفكرة تُفرض من حكومات غربية، وتروّج من الأمم المتحدة، أما في الأمس فلم يكن هناك مجال لذلك.
ماذا يعني هذا؟
يعني أن عشر سنوات أو اقل أو أكثر، قد تسمح بظهور لوحة أخرى، تعيد عقيدة النزوة مع الأطفال، لمنصة الفرض المتوحش، فيكون مشهد فوكو وهو يوقّع خطاب المطالبة بتشريع السادية مع الطفولة، أو وهو يطارد أطفال تونس لممارسة السادية الجنسية عليهم، مذهبا جندرياً حراً، لأنه يُعظّم عقيدة الشهوة والنزوة، ولو لاحظنا إيقاع المشهد وجنونية الرقص، الذي تشابه مع أغنية المغنية الإباحية الأسترالية، إيغي أزاليا في مهرجان الطائف في السعودية، سندرك معنى الوحدة العقائدية لهذا المشروع، لكن فرضه على الطفولة يحتاج بعض الوقت، وهذا ما تخطط له الحداثة المثلية.
ورغم الفزع من المشهد وحجم تخطيه كل الحدود، إلا أنه في تقديري مشهد يشير إلى خوف وقلق، هذا القلق بسبب عودة مشاعر الروح والعاطفة الفطرية، ومعنى العلاقة المقدسة بين الأسرة والطفولة في دين الفطرة الخَلقِية، التي تؤمن بها الديانات السماوية وغيرها، إن هذه المشاعر المنتفضة في الأوساط المسيحية، الخائفة على فلذات أكبادها، باتت تطرح تاريخ التواطؤ من بعض الكنائس المسيحية الغربية، مع الحداثة الرأسمالية ضد الإنسان وحياته، وإعلان وصاية الإنسان الإله على البشرية، لا على قوته ولا على رياضته ولا على زمنه وحسب، ولكن على المولود في رحم أمه.
فهل تتقدم الإنسانية لتحالف أخلاقي ينقذها، من الحداثة الرأسمالية، إلى الروح الأخلاقية التي تصلح بها مفاهيم الحقوق العالمية، نحو حداثة تخدم الإنسان لا حداثة تسحقه؟

mohana63

Recent Posts

العقل المعرفي..الفارق الفلسفي الإسلامي

العقل المعرفي.. الفارق الفلسفي الإسلامي مهنا الحبيل في رحلة الجدل الفلسفي المعاصر، تختط قواعد المقارنة…

4 أيام ago

أفق السلام الكردي_التركي

أفق السلام الكردي-التركي مهنا الحبيل أياً كانت القراءات المختلفة، لموقف دولة بهتشلي القائد القومي التركي…

4 أيام ago

فرض الديمقراطية الدموية

فرض الديمقراطية الدموية مهنا الحبيل يفكك روسو التحديات التي تواجهها السلطة الاشتراعية، وخاصة كونها القوة…

4 أيام ago

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية مهنا الحبيل هل توقفت يوماً عند ذلك الطفل، الذي…

4 أيام ago

رسالة للزواج الجديد

رسالة للزواج الجديد مهنا الحبيل يبدو عنوان البرنامج الوقائي، لوازرة التنمية الاجتماعية في قطر، مهم…

4 أيام ago

الديمقراطية التي تحمي السيادة

الديمقراطية التي تحمي السيادة مهنا الحبيل يعرضُ روسو لطبائع الشعوب وما يُلائمهم من حكومات، كسلطة…

4 أيام ago