الحرب الأوروبية وسؤال الإنسان الآخر

مهنا الحبيل

1/3/2022

تقفز تحليلات الحروب في وهلتها الأولى إلى الميدان العسكري ومآلاته السياسية المباشرة، دون أن تتوقف مع جذور الكارثة أو في الفكرة التي قامت عليها الحرب أو جذوة الصراع، وما هو موقف الفلسفة الأخلاقية منها، ليس كجدل تنظيري منفصل يختلط بهذر سفسطائي منفصل عن الواقع والحياة، ولكن كعمق ضرورة للفهم العقلاني الرشيد الذي يُحدّد مساحة الخيرية كميزان في أحداث العالم، ولذلك فالمنظور السريع عن الحرب الروسية أو الغزو الروسي لأوكرانيا اليوم، لا يُحقق قاعدة هذا الفهم والفرز الضروري للمستقبل الإنساني.

       بعث خطاب الرئيس الروسي بوتين المطوّل كمقدمة قبل إعلانه الحرب، جذور الأيدلوجية القومية الروسية وانتمائها الأرثوذكسي، في مواجهتها مع الشقيق العدو وهو الغرب الكاثوليكي اللبرالي، كأقرب التصنيفات التي نضعها بين الكتلتين لنحدد مفهوم الاتصال والانفصال في الداخل الأوربي، ولسنا بالضرورة نسقط كل جوانب الاختلاف أو التصنيفات الأخرى.

       فأين تقع روسيا أليست ضمن الجغرافيا الأوربية؟ بغض النظر عن صراعاتها التاريخية الكبرى قبل الإتحاد السوفييتي مع الدول والقوى الأوربية الأخرى، فهذا ديدن التاريخ الأوربي الذي لم يستقر إلا بعد الحرب العالمية الثانية، فهل استقر؟

 أم أنه أدار حروبه الداخلية وحوّلها إلى عالم الجنوب، فالنازية ذاتها بكل حروبها كانت تنطلق أيضاَ من منظور أوربي عرقي عنصري بنزعة مسيحية متطرفة، وبوتين اليوم ينطلق من قومية عنصرية ونزعة أرثوذكسية، وكل هذا لا ينفي عن الآخرين في أوروبا القديمة وفي أوروبا الجديدة الولايات المتحدة الأمريكية، توظيفهم لسياق التعصب القومي والديني، الذي دمجت به وغلفت القوة اللبرالية التقدمية في العالم، كانت تختط في حروبها ومواجهاتها ذات السبب الذي استخدمه بوتين في الخطاب للتبرير لحماية أمته القومية.

       إن الحصاد الذي سجله بوتين ضد الشقيق العدو الغربي، في تلاعبه بالسياسات والمواقف، هو أيضاَ قد يصدق في دلالات موقف النيتو المنافق من أوكرانيا ذاتها، وحجم الدعم المقدم لها أو الانسحاب عنها، ودعم وجود قوة استنزاف للروس يطول أمده وينهك القيصر الجديد، وهو ذاته الذي احتج به بوتين في نفس الخطاب، حين استعرض حربه المتوحشة ضد الشعب الشيشاني، والذي قاد فيه اعلان الاستقلال الزعيم الراحل جوهر دوداييف، ثم اُحتج بالإرهاب عليه رغم أن دوداييف أول كفاحه لم يكن له علاقة مطلقاً بأي جماعات إسلامية مسلحة، وكان ضمن النسيج القوقازي الصرف، بل إن ثورة الشعب الأولى في القوقاز كانت في القرن التاسع عشر وقاومت لعدة عقود، ولم يكن حينها أي وجود للقاعدة ولا غيرها، وانتهت بإبادتها بيد روسيا القيصرية.

       يحتج بوتين أيضاً في خطابه بوقاحة بإبادة الشعب السوري، وتدخله العسكري لدعم نظام دمشق الذي لم يكن حالة غزو لدولة مستقلة كأوكرانيا، يحذر بوتين الغرب من دعمها، ولكن أمام ثورة شعبية بدأت سلمية وعزلاء السلاح، وحين اهتز عرش عميله في دمشق، بادر بالتدخل وذبح ذلك الشعب بحربة ميلشياته أو بقصفه الذي لا يزال يُمطر على شمال سوريا، حروب إبادة تبرر باسم الإرهاب.

       وهو ذات المعيار الذي استخدمه الغرب في أفغانستان وفي العراق، وقبله في فيتنام وفي دول أخرى في أفريقيا وآسيا، وفي أمريكا اللاتينية وفي الكاريبي، وفي كل الحالات لم تَصدق الدول الغربية مطلقاً، في كونها تُطبّق ما تزعمه من دعم ديمقراطية حقيقية يقف فيها الشعب مستقلاً بحريته وقراره، ويوزع ثروته بحسب مصالحه، لا مصالح الأنظمة الشمولية القمعية في بقية العالم، والتي خدمت صناديق الغرب.

       هنا نحن أمام معادلة ضرورية تحتاج أن تُفرَز من جديد بقوة أخلاقية، ما هو الإرهاب وما هي معايير أضراره، وما هي الحالات الأكثر ضرراً على الشعوب، وما هو مصير العالم في الظاهرة الإرهابية الدولية، التي لا تنفذها جماعات عنف، ولكن سياسات دول عظمى، تُسقط العالم بعد أن انهكته وصنعت منه سوقاً برجوازيا شرساً، ثم تتاجر في الحروب على حساب الإنسان الآخر، فهل هذه المعادلة تتغيّر عندما تكون الحرب في عالم الشمال، أين هي سجلات التاريخ الموثقة في مسيرة الحروب، ومن هي القوميات والأمم التي أشعلتها بالذات بعد قيام العالم الحديث.

       كم استنزفت هذه القوى الكوكب وكم مكنت لجماعات عنف عبر توظيفها، أو من خلال ردة الفعل للتوحش الآخر الذي لم يكن لينتشر في العالم الحديث، إلا بعد سلسلة من الحروب العدائية على عالم الجنوب، وبالذات حاضر العالم الإسلامي.

 ولقد تحدث بوتين عن العهد الشيوعي بغضب، محملاً إياه التنازل عن أراضي القومية الروسية الأرثوذكسية، مقابل انضمام تلك الدول إلى الإتحاد السوفييتي، فمن صنع الثورة البلشفية ومن أين انطلقت وأين تمكنت؟

       نستحضر هنا الخطاب الغربي الجديد المتفق مع الخطاب الروسي، يقود الشق الأوربي فيه الرئيس الفرنسي ماكرون ويتبعه أحزاب عديدة في الغرب تنزع إلى اليمين المتطرف، ويقود شقه الشرق أوربي الرئيس بوتين، إنه تحريض العالم على الإسلام والمسلمين، واعتباره خطراً عالمياً وتعميم الموقف منه، حتى مع صدور استثناءات أو رعاية أنشطة دينية أو مساجد باسم الإسلام المناسب لكلا القوتين.

       إن الإنسان الآخر يُمثل المسلمين اليوم كتلته الكبرى، ويُحرّض عليهم ويعلن دينهم ديناً حربياً بزعم أولئك الساسة في موسكو أو في النيتو، فأين بعث المسلمون الحروب على غيرهم في العالم الحديث، إذا كنا ننطلق من تاريخ جديدٍ للإنسانية، مع أن أرقام العالم القديم ليست في صالح أوروبا بشقيها، ماذا فعل المسلمون مقابل الأيدلوجية اللبرالية الغربية او الأيدلوجية الشيوعية الروسية، أين مقعدهم في الأحداث والمحارق الكبرى في الحداثة المزعومة، هل ارهاب جماعات العنف من المسلمين المدانة ردة فعل أم فعل ابتدائي، إنه الغربال المزيّف الذي يغطي سوءة الإرهاب العالمي الحديث، ويخنق صوت العدالة الإنسانة لإنقاذ البشرية.