الدرس المصري بين بيغوفيتش والمسيري
مهنا الحبيل
1/2/2021
لا يتناول هذا المقال تفصيل مادة المحاضرة المشار إليها، ولكنه يحاول فهم مسرح هذه الفعالية وعلاقة الزمان والمكان والفكرة بها، وحديثنا هنا عن مناسبة حاشدة الحضور، وحسب ما صُدّرت بها المادة فهي محاضرة للدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، بعنوان اللحظات الفارقة في تاريخ علي عزت بيغوفتش، الفيلسوف الإسلامي والرئيس المؤسس لميلاد دولة البوسنة والهرسك، بعد كفاح المسلمين البوشناق.
وهو الكفاح الذي قاد إلى دولة تعدد واحتواء إنساني، لا يوجد لها مثيل في حالة أوروبا من حيث سياقات الحرب التي صُبّت على المسلمين ومواطنيهم المسيحيين من كروات وصرب، انحازوا للتعايش مقابل ميلشيات يمينية مسيحية أرثوذكسية وكاثوليكية دُعمت من أوروبا بشقيها الكاثوليكي والأرثوذكسي الروسي، لانتزاع إقليم لكل من الكروات والصرب، يُضم إلى الدولة الأم لهم.
ومن المفارقات ورغم كل التضحيات التي قدمها المسلمون، ونموذج التسامح الذي قاد به علي عزت بيغوفتش الاستقلال الجديد، إلا أن طبول الحرب تُقرع اليوم من جديد، عبر المتطرفين الصرب، لإسقاط دولة البوسنة والهرسك، ورغم ضجيج الغرب الصاخب، عن معادلة الدولة والحقوق المدنية، التي تستثني المسلمين دوماً منها، فلا تتحمس اوروبا لأي معادلة إنقاذ لدولة تُبقي هويتهم وقيمهم الإسلامية، والهيكل المستقل لقومية البوشناق.
كان عبد الوهاب المسيري يتحدث بحماسة كبيرة، عن دلائل فلسفة بيغوفتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، في الجوهر الذي ظل المسيري يبحث فيه وحوله طوال تجربته الغربية، وهو أين ستقود تلك الفلسفة في زمن دراسته وما تلاها، وزمن هذه المحاضرة ليس كما رُسم على موقع التيوب، وإنما ظهر لي أن الأقرب أنها في عام 1988 إبان الانتفاضة الأولى في فلسطين المحتلة، وخلال زمن تدريس المسيري في جامعة الملك سعود بالرياض، وهما النقطتان التي أشار لهما في حديثه.
في كل اهتمام المسيري وبالذات في مقدمته المهمة لكتاب بيغوفتش، كان يَظهر على المسيري بقوة ذلك الإعجاب العلمي الفكري، وليس الأخلاقي فقط مع بيغوفتش، وهذا لا يعني انه لم يعرف سيرة بيغوفتش ونقله لفلسفته لواقع إنساني مذهل، في تعامله مع الأُسر المسلمة والمسيحية الكرواتية والصربية، وفي تواضعه ورعايته القلقة لأحوال الناس في جمهوريته التي كانت تُقصف من محارق هولوكوست مسيحية.
ولكنه كان مندفعاً لتقديم مادة دقيقة، تشرح للحضور كيف أن الخلاصات التي وقرت في قلبه وفي عقله كطالب، وما أعقبها من متابعة فلسفية في المتحوّر الجديد للفلسفة الغربية، وجده في كتاب بيغوفتش، وأن تلك الجذور التي بدأ في رصدها من الستينات، تقوم على ذات المعادلة التي فككها بيغوفتش، وقد استخدم كل شواهد وأدلة وفنون وإحصائيات التعقب العلمي، وأن بيغوفتش حينها، (وهذا أيضاً مسلك الفرنسي رينيه غينون) لم يُحدثهم كمنبر تبشير ديني، وإنما كحوار معرفي متقدم، حدد بوضوح جذر الانحراف، الذي تُواصل الفلسفة الغربية بشقيها اللبرالي والشيوعي الاندفاع فيه.
هنا كان المسيري يطرح رؤيته في كليّات رئيسية، عما وجده شاهداً عملياً قوياً، في مسألة (المَادَوَيّة) المتوحشة، بكل تفاصيلها، وأثر عقيدة الحلول والاندماج الكلي بين الحداثة (والإله المزعوم) الذي استُبدل به يقين الخلق والوجود، ثم يفصّل في تبعات هذه العقيدة وتقديسها، وأن الغرب يوشك أن ينفجر ببعث جديد، لدورة تطور ولد بها هذا المتحوّر الحديث، والذي يفتك بالأسرة وبأي ضمير أخلاقي روحي.
لكن المفاجأة كانت على الأقل من خلال التعليقات، رغم محاولة مدير الندوة د. سيف الدين عبد الفتاح الباحث المعروف، تهذيب ذلك الحشد من المداخلات، والذي ابتعد كلياً عن رؤية المسيري، ليس لعدم الفهم الذي قد يكون أحد الأسباب، ولكن ما هو الأبرز هو انصراف الشباب، عن مجرد فتح صدورهم لوعي هذه الفكرة، والمشترك بين بيغوفتش والمسيري.
كان من حضور هذه الفعالية الشيخ محمد الغزالي المعاصر، ولا يحتاج هذا العالم التجديدي لتوضيح نزعته العقلية، وما برز من اختلاف مع المسيري في تَعْليْقَيَه، كان في زاوية التناول وليس في قاعدة التفكيك، لكن ماذا عن الشباب الإسلامي المصري؟
أولاً يبرز للمتابع أن هناك في ذلك الوقت قلة تقدير أدبي وعلمي لفلسفة عبد الوهاب المسيري، وقد تغير هذا الموقف للأفضل في آخر حياته، الأمر الآخر هو حرص المتداخلين على التعقيب برأيهم بعيداً عن جوهر محاضرة المسيري، مع افتقار الأدب اللازم في مجمل التعليقات، وذهاب الشباب إلى طرح رأيهم كفكرة منفصلة ومُهَمِّشَة للمسيري، مع إساءة وهجوم غريب صدر من أحد المداخلات.
احتوى المسيري هذه التدفقات السلبية رغم أن الضيق قد بدا عليه، ولكن فُسحة الصدر وإعطاء الفرصة للشباب مؤشر جميل فيه، لكن هناك شواهد أخرى لها علاقة بأزمة المصير للوعي الإسلامي الفكري والصدام السياسي، الذي ربما كان من عناصر التأخر أو الفشل في تنظيم قاعدة الفكر، وفهم تحديات الاشتباك الغربي/ الإسلامي، فضلا عن أزمة الحراك السياسي عام 2012 التي عاشتها مصر، وربما ينطبق على مناطق عربية أخرى.
لقد أثبتت الاحداث التاريخية في مصر والوطن العربي، وبالذات بعد اسقاط ثورة 25 يناير، أن الأسئلة أو موجة التثقيف الذي عاشها الوطن العربي بعد ذلك، كانت تستمد جذورها من ذات المتحوّر الفلسفي الغربي، الذي دعا المسيري لفهم أزمته، في إطار علمي فكري لا ملاعنة وتحريض.
ولقد تقاطع انتشار المتحوّر الفلسفي مع مصالح الثورة المضادة وأنظمتها السياسية، فجرى توحد على الأرض بين الأفكار التي ثارت في وجدان الشباب المصري والعربي عن الهوية الذاتية، التي سعى لبثها المركز الغربي، مع زمن القمع التاريخي للمستبدين، ولكن ذلك الشباب المصري كان مغيباً في ذلك الحين عن هذا الاستشراف، فتأخر وعيه عن إدراك خطاب المسيري، وكم ساعد هذا التأخر في تخلف العرب.