الديمقراطية التي تحمي السيادة

مهنا الحبيل

يعرضُ روسو لطبائع الشعوب وما يُلائمهم من حكومات، كسلطة تنفيذية، ويعود لكي يُحذر من الخطر الأكبر، في تغول السلطات المؤدي إلى الانحطاط في طبيعة الحكم، ثم الوصول إلى اقتلاع قاعدة التنظيم والحفاظ على حق الشعب، كونه السيد المطلق في مرجعية التعاقد الاجتماعي، التي منحت هذا الأمير، أو تلك الحكومة تسلم السلطة التنفيذية، وإدارة شؤون الدولة والشعب، فتتضخم الإرادة الخاصة، حتى تنزع السيادة من الشعب، فيسقط أي رادع لفساد الحكم.

       ولذلك يعود إلى الدفاع عن الفكرة الديمقراطية، بإعادة ترسيخها، كحامي أخلاقي ودستوري وحقوقي، لصالح الدولة وشعبها، كونها تُمثل آلة الردع التي لا يمكن، أن يختطفها المستبد، ما دامت إرادة الشعب قائمة، تتنزل في الصناديق أو في الشارع، وهذه حقيقة ملموسة، غير أن روسو تجاوز هنا ما أشار إليه سابقا، من تضليل السلطة للرأي العام نفسه لهشاشة ثقافته، وبالتالي قد يصوّت لترجيح كفة جلاديه.

       ويجب التفريق هنا بين الأمم التي سادت فيها، مرجعية الشعب ودورات الانتخابات، وبين تلك المواسم الضعيفة، التي يُقام سُرادقها باسم الديمقراطية بضع سنين، ثم تطوى وكأنها سجادة أرضية تلفت، أو تُلقى في المخازن بلا قعر، فتبقى الديمقراطية مصطلحات جوفاء لا تغني ولا تسمن من جوع.

 كما أن بقاء هذا التداول لا يُلغي، تحول الإرادة الخاصة من مجموع أفراد، إلى مؤسسات الدولة العميقة في جسم (الأمير) وراء الهيكل الحكومي، أكان فريقاً رئاسياً أم حكومة منتخبة (النموذج الأمريكي)، فهذا يحتاج إلى مناقشة متخصصة، عبر مفهوم روسو نفسه في خطر نزع السيادة.

       في كل الأحوال فإن ميزان روسو هنا، هو تقلص العدد المشرف على السلطة، وتناقصه تدريجياً، وتكتل مصالح الدولة على حساب، مصالح الإرادة العامة، أو أنها تتمدد جغرافياً وديمغرافياً، ولا يوجد من يضبط هذا التمدد ويُمثّل في الحكم التنفيذي، فينحل العقد الاجتماعي، وهو ما يُسهّل الوصول له في الارستقراطية، وفي أسوئها وهي الأرستقراطية الوراثية الملكية.

       وقول روسو، أن الانحلال يعني بالضرورة سقوط الدولة، فيه نظر، فالانحلال مؤذنٌ بفساد الأمم وبكوارثها على الشعب، لكنه لا يعني سقوطها، فامتداد حكم الطغاة ومن يورثونهم قائم في تاريخ العالم، الطريف أن روسو يشير إلى دمج اليونان القديم، لمصطلح طاغية وملك، فلا يفرقون بينهما في وصف زعمائهم.

 وينقل عن هيرون لاكزينوفون، أن ارسطو يُميّز بين الطاغية والملك، بأن الطاغية يحكم لفائدة نفسه، أما الملك فيحكم لفائدة غيره، وعلى ذالك يستنبط روسو أنه لم يوجد ملك صالح في هذا العالم، وهذا لا يُسلّم له، لكنه مهم في وصف جوهر الاستبداد.

       كما أن قاعدة روسو تتفق كلياً، في تحول قوة السلطان والإرادات، في تاريخ المسلمين أزمان الانحطاط العديدة، إلى عصبيتهم دون الناس، فحكمت الإرادة الخاصة لبني مروان، وبني العباس وبني عثمان، ثم أنظمة البغي من بعدهم، وهكذا اختُزلت إرادة الأمة في عصبة قليلة، تراعي مصالحها، أو تحكم بموجب نظرتها لشؤون الدولة وعصبيتها، فتحارب وتسالم، وتُعطي وتمنع، حسب هذه الأقلية.

       وهو مدخل لفساد عظيم، ولكن حينما نقضه معاوية ابن يزيد، وعمر ابن عبد العزيز تحول لصالح إرادة الأمة، فبوركت دولتهما ورأى الناس الخير ينهمر، لكن ذالك لم يَضمن تصحيح المسيرة، فتخلى معاوية الثاني عن ضمان الاستخلاف لمن بعده تزهداً، ولم يُعيّن عصبية لأهل الحل والعقد، بل تركها تحت مشورة الأمة، وقد كان تنظيم مجلس الشورى الذي رغب إليه معاوية الثاني، يحتاج إلى سنوات للتشكل، فكان ذالك خطأً كبيراً منه.

 أما عمر ابن عبد العزيز فلم يُسعفه الزمن لضبط تولية من بعده، ولذلك فإن آذان الدول بالسقوط لفساد الطغاة ليس قاعدة، وتاريخ الأمم شاهد على ذالك، المهم هنا تعبير روسو في حقيقة أن اغتصاب السلطة يعني حل العقد الاجتماعي بينها وبين الشعب، وهنا نوضح ايضاً أن العقد الشرعي بين الحاكم والمحكوم، في أصل الشريعة يقوم على الرضا من الأمة عبر ممثليها، وتعيين المرجع للتمثيل يصعب حصره، وخاصة في فهم دورة الزمن لكل عهد، وهي متعددة مضطربة جداً، لكن الفارق في الحالة الإسلامية عن عشائر الرومان لدى روسو، هو في أهلية عضو الحل والعقد.

       هذه العضوية حين تُكرّس على شروط الصلاح والخلو من المفاسد والعصبيات، فهي منظومة عقول رشيدة، يوم تُعزل عن عصبية السلطان، فلا مجال لمقارنة ذالك، بمرجعية الحشود الهمجية التي زكّاها روسو، لكن المدخل الكارثي الذي أخل بنظام الدولة الرشيدة في الإسلام، هي أن نخب الحل والعقد، كانت تحشدُ من المستبد نفسه، وتخضع لمصالحه، فكيف تكون مرجعا للنظر في عزله وتقويمه؟