الرابط بين ميشيل فوكو ويوفال هراري
مهنا الحبيل
9/6/2020
نشرت الجارديان البريطانية في العشرين من أبريل الماضي، مقالاً للمؤرخ والمفكر (الإسرائيلي) يوفال نوح هراري، يحمل المقال عنواناً مركزياً هو الموقف من الموت، هذا العنوان يتقاطع كثيراً مع الفكرة التي تنتشر اليوم في العالم، عن نظرية يوفال لمستقبل البشرية والتي ربطها من خلال مؤلفه الشهير العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري.
قفز اسم يوفال بصورة واسعة وطُبع من كتبه ملايين النسخ، واستضيف في أكبر المؤسسات الإعلامية والثقافية، وجدولت له مواعيد مع زعماء عالميين، وهو أستاذ في جامعة القدس في فلسطين المحتلة، هناك أسئلة على أقل تقدير تطرح عن الصعود السريع ليوفال، لماذا يصعد اسمه ونظرياته لقمة العالم الجديد اليوم.
حسناً دعونا نتعامل بحياد، أو حتى تغافل عن هذا التساؤل، ونطرح رأياً يعتبر كتاب يوفال، وما أعقبه من مؤلفات حالة اكتشاف مميزة مستحقة، لنقد النظريات السابقة، وإعادة تأسيس بنية (علمية) لمفهوم تعاوني بين العالم الحديث، تُعالج فيه مخاطر العولمة التكنلوجية، التي تهدد البشرية في الثلاثية التي حددها يوفال، وأبرزها الاحتراب النووي، وتأثير التكنلوجيا البيولوجية على العالم.
وأؤكد هنا بأن ليس مهمة هذا المقال مطلقاً، تقييم نظريات يوفال، وإنما الوصول إلى مدخل زمني حديث جداً يمثله صعود د. هراري، لفهم تاريخ تناسخ نظريات العلم الحديث ما بعد الحداثة، وخاصة منذ عهد ميشيل فوكو، وما بعد سيادة نظريته وخاصة الحياة الجنسانية، وهي ما عناها وائل حلاق غالباً، في تعليقه على انقطاع رؤية فوكو في نقد النمط الخطابي، حيث تحوّل إلى الحياة الجنسانية، وثلاثية التأثير المركزي على فكر الإنسانوية المعاصرة.
ويبدو للقارئ بوضوح أن قراءة يوفال مشتبكة جداً، مع منتج التراث الإسلامي ونظريات اللاهوت، وهو يعود لها حتى في مقاله المذكور، وبالطبع لم يبرز من يُعيد دراسة ما يُزعم بأنها نظرية علمية حتمية لتاريخ الجنس البشري، الذي بنى عليها يوفال إعادة فهم تأسيس العالم القديم، ثم طرح نظريته للخلاص.
وهي إحدى شواهد العُمْيْ الفلسفي، الذي سيطر على المؤسسات الأكاديمية، من ناحية أحادية مصدر التفكير الجديد، الذي أقصى معيار العقل المعرفي، وحدد له مساراً ملزماً حتى يُعترف بأي فلسفة، دون أن يَتتبع البحث العلمي هذه الكليات المعلنة، عن تاريخ البشرية، وفهم الروح في الجسم البشري التي يُتمسك بإلغائها، في كل دورات الحداثة المادية الأخيرة.
تبدو لنا هنا، مسألة مهمة في المقالة، وهو الرابط بين سوسيولوجيا المؤلف، والنظريات التي يُحررها، وأين هي دائرة القلق في أسطره، وهناك مقالة اعتنت بإعادة تفكيك موقف يوفال من القضية الفلسطينية، والتي رأت أن يوفال رغم نقده للبطش الإسرائيلي، إلا أنه في الحقيقة يتماهى مع مشروعية الكيان والتبرير السلس، الذي يحرص على تمريره، من لهم منصات فلسفة عالمية.
حتى يبدو أكثر إنسانية، ونحن هنا لن نجعل الموقف من إسرائيل، معياراً كلياً في مسار أسئلة المقال، غير أننا نشير إلى صدمة إدوارد سعيد، في مواقف سارتر وسيمون بفوار وميشيل فوكو، من الاحتلال الإسرائيلي الذي اتجه في نهاية المطاف إلى التبرير الفكري له.
في حالة يوفال تنقل الكاتبة الفلسطينية نسرين مغربي هذا النص عن يوفال نفسه:
أن اليسار الإسرائيلي يبالغ عندما يصوّر إسرائيل على أنها سيئة بوجه خاص. الاحتلال الإسرائيلي في المناطق (المحتلة عام 67) ليس شراً استثنائياً، ولا سابقة له في التاريخ. فهو عادي جدا (…). لقد وظف البشر طاقاتهم لزيادة رقعة مناطق نفوذهم على مدار التاريخ البشري، ومارسوا العنف على الغرباء. (..)وكانوا أكثر نجاعة وأشد قسوة من مجلس مستوطنات الضفة وغزة ومن فتيان التلال، في عزمهم على ضم دونم هنا وأخذ معزى هناك.
وخلاصة القول أن دولة إسرائيل ليست دولة ذات خصوصية، لا لجهة السلب ولا لجهة الإيجاب.”
أريد هنا أن أربط موقف يوفال مع أسلافه في تسلسل الفكر الحداثوي، سواءً كان عن تخندق أيدلوجي فلسفي، أو خطأ في التصور، فيما يُصر وائل حلاق وإدوارد سعيد، على ان إنشاء الدولة الإسرائيلية هو ضمن سياق، حماية الرأسمالية الغربية على العالم، وأن مفهوم (الإبادة الإيجابية) للغرب الرأسمالي مارسته تل أبيب في فلسطين المحتلة.
والإشارة هنا إلى تأثير سوسيولوجيا المؤلف على رؤاه، ولماذا تُعتمد نظرياته دون البحث في هذا المسار، ففي مقال الجارديان هناك قلق بالغ يزدحم في مقال يوفال، فقد كان يتحدث في نظرياته عن قهر البشر للموت، في حين يتناول هنا الموقف من الموت، في سياق يسعى ليؤكد أن البشرية ستخترع لقاحاً لكورونا وتنتصر، وهذا الأمل العالمي الأخلاقي للوباء، كما هو دعم العلم التجريبي الإيجابي، لا خلاف حوله، لكن يوفال يطرحه في صورة الصراع مع فكرة الموت، وأن البشرية ستقضي على الموت.
تبرز هنا هويتان ليوفال الملحد الذي يرد على الواعظين، وهنا نفهم غضبه من تعصب (الديانة) اليهودية، لكنه يستدعي الفكرة الإسلامية، وهو ما يبعث رسالة قلق لعمقها الفلسفي وللرد عليها، أما المٍسألة الأخرى، فهي دعواه غير الموثّقة، في أن بعض الممارسات والأمراض، لا علاقة لها بممارسة المثلية، وإقحامه هذا الأمر وخاصة عن الإيدز في مقالته.
ما أُريد ان أشير له هنا، كملحظ للتأمل، أن الموقف الذاتي ومذاهبه السلوكية الشخصية، تلعب دوراً في تقديم فكره للمنصات العالمية، وترويج خلاصاتها النهائية، فهراري مثلي مرتبط برجل، وميشيل فوكو مثلي سادي توفي بالإيدز، جراء إسرافه في هذه الممارسات، فلماذا علينا أن نقبل أطروحاتهم التبريرية بالمطلق، في تأسيس تاريخ الجنس البشري والحياة الجنسية، دون أن نتوقف قليلاُ أمام حقائق العلم وتاريخ الوجود، وأثر الاضطراب والقلق الفردي على فكرة الفلسفة، سؤال مهم يقودنا مستقبلاً لتطبيق قاعدة رفض فوكو على كانط.