مهنا الحبيل

26/2/2023

لعل الاتفاق الإطاري الأخير في السودان بين المجلس العسكري، وأطراف سياسية رئيسية،  يمثل إيذاناً بدخول الدولة مرحلة انتقالية مهمة وحسّاسة للغاية، فيما برز الخلاف في مرجعية الرؤية لحصيلة هذا الاتفاق، وحجم التوقع لتأثيره المستقبلي على الأرض، في موقفين، الأوّل النظر له باعتباره سيفضي إلى حكومة مدنية، تحقق الانسحاب الكلي للجيش من العمل السياسي، كما ينص على ذلك الإطار. 

       ولكن هذا النص لا يعني أنه سيتحول إلى واقع تنفيذي شامل، فتنسحب روح الجيش وقوته العميقة من الحياة السياسية، وهو الموقف الثاني، وهذا ما يجعل الروح الثورية الشبابية تشعر بالقلق أو الإحباط، رغم مشاركة أضلاع رئيسية في المعارضة، وعلى ذلك فإن هناك شكوكاً من مساحة التغيير المرتجاة، وشكوكاً في التزام الأطراف العسكرية بوعودها. 

       من جانب آخر كان هناك ما يكفي لتقدير الأزمة العميقة للتوافق المدني الوطني، سواءً على مستوى جماعات الثورة نفسها، أو على مستوى التيارات الفكرية الفاعلة، فالانقسام لم يقتصر على صراع الإسلاميين التقليديين، مع قوى اليسار والتيارات اللبرالية الحديثة، والتي نشأ بينها ما يشبه الهجين الفكري، القريب من اليسار الاجتماعي ولبرالية السوق المعاصرة، وهي قفزات فكرية تتصدر اليوم الحياة السياسية والثقافية في الغرب، وتقفز على المشهد. 

       ولسنا في ضوء شرح هذا الهجين الفكري، ولكننا نشهد انتقاله للوطن العربي والسودان أحد نماذجه، من خلال بروز مفاهيم خطابية وسمات ثقافية، تتقدم في مواسم الثورات، وأهم ما يمكن تحديده، هو الإغراق في صناعة المبدأ الحقوقي بناءً على مشاعر الفرد الغامضة، غير المحدد بإطار أخلاقي ولا وجود إيماني ديني، وتحويل حقوق الذات إلى كتلة مشاعة من التصورات المبهمة، في تعريف الفرد والأسرة، ومن ثم بناء المنظومة الفكرية وكفاحها السياسي من خلال هذه الايدلوجية. 

       في المقابل فإن حالة الصعود الإسلامي الفارقة، والتي تراجع سجل الحياة الإسلامية الحركية، ومساحة تورطها في تجربة الإنقاذ، ومآلاته الكارثية، لم تتقدم اليوم للساحة الوطنية السودانية، وهناك ملفات ومفاهيم ومراجعات فكرية، لا يعجز السودان مطلقاً عن الوصول إلى أرضية تحريرها، وهناك شخصيات عديدة مؤهلة لذلك. 

 كما أن ما بَرَزَ من قوى وطنية شبابية فاعلة، تؤمن بالمرجعية الإسلامية خارج إطار التابو الحركي والأيدلوجي، وتملك روحاً حضارية وفكرية تقدمية، تظهر اليوم في خطاب بعض الشباب، لكنها لم تتحول إلى مؤسسة أو مؤتمراً فكرياً، يجمع المؤمنين بالدولة المدنية، دون شعور الدونية أو القطيعة مع الرسالة الإسلامية، بل تفعيل مواثيقها العدلية وبعثها الأخلاقي المعطل. 

       وإطلالتنا على هذه التيارات والأفكار تشير، إلى حضور ثقافي وفكري جديد يعيشه السودان، في ظل إستقطابات دولية وإقليمه ضخمة، بين التدخل السياسي أو الترويج الفكري، وخاصة أن الشباب هم من مثّل قوة النضال الميداني في مواجهة نظام الرئيس البشير، ومع ذلك لم تتحول قوتهم إلى بيدر سياسي حاسم، وإن شاركت أطياف الثورة في الاتفاق الجديد. 

       ولكن المحصلة أن الموجات التي عاشها السودان، منذ اسقاط البشير والصراع بين كتلتين من القوى العسكرية، شهدت حالات صراع شرسة بين التيارات الفكرية، غابت فيها طاولة الحوار، وتشنج المنصات بعث رسائل مواجهة انتقامية من طرف الأفكار الجديدة، يقابلها تحفز قلق، وارتداد إلى الوراء من تكتلات اجتماعية دينية، وخلال هذه المراحل التي عصفت بشركاء الثورة من خارج الإسلاميين انفسهم، صعدت مشاعر فزع وقلق، على تأثير هذه الفوضى على أساسيات المستقبل القومي السوداني، في ظل وجود حركات مسلحة داخل أقاليمه، وأدوار وظيفية معروضة لها من الخارج. 

       أضف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية العالمية وأثرها على رزق الناس، واستقرار وضعهم المعيشي، وبالتالي كان السؤال في ظل تعدد الفرقاء بين سقوط أمني سياسي كبير، وبين مرحلة انتقالية تسمح للمكون والحياة المدنية أن تسترد بعض مطالبها وتفرض حضورها، في المشاركة الشعبية والرقابة التشريعية، وضمان الحقوق الدستورية للجميع، وهو بالضبط ما كان يجب أن يجتمع الناس عليه، في المطالب الوطنية الجماعية، دون أن يمنع ذلك ضمان الحق التعددي، وعدم مس حقوق الفرد المشروعة في الدولة وفي المجتمع. 

ومن المؤكد أن المجلس العسكري استفاد من مخاوف الفراغ السياسي، لكن المأزق الفكري السياسي كان يتعاظم ايضاً، وبالتالي فإن هذه المرحلة فرصة للمجتمع المدني في السودان، وحين نقول المجتمع المدني فهو يعني كل شركاء الحياة المدنية والدستورية من علمانيين واسلاميين وتكنو قراط وراي عام، لتفعيل الحوار الجامع الذي يقود المجتمع، لقوة حقوقية أكبر ترسخ مشاركته الشعبية، لأجل وطن حقوقي للجميع.