السياحة والنظافة والحضارة
مهنا الحبيل
بدت لي أزمير محطة مهمة لبدأ الرحلة التركية البرية، كان المستشار هذه المرة (الذكاء الاصطناعي) الذي أعطاني ما يكفي من معلومات، وإن لم أُنَصِّبُهُ شيخاً لي، وقد آذن بهيمنته على العالم، واصبح الشيخ جوجل يندب حظه، وأهم ما أفادني به، خطة الرحلة المقترحة والمحطات، ومعالم المدن التي يصعب علي أن أُحصيها، فالفترة الزمنية لا تفي بمعظمها.
ولكن المتعة والمشهد فاق التوقعات عن أزمير، فهي بالفعل مدينة جميلة وهادئة في نفس الوقت، أقل صخباً بكثير من عروس الشرق إسطنبول، وفي الرؤية الثقافية عنها، تترسخ مرجعيتها العلمانية. ومسألة الانسجام التركي الشعبي بين العلمانيين والمتدينين، ليست بالحدة التي يتصورها العرب في الحياة العامة والاجتماعية، وحديثنا هنا ليس في جدل الفكر، ولكن في انطباعات السائح، وقبل أن استطرد أسجل حقيقة مهمة، في اكتشاف المبتدئين من أمثالي لسياحة الطرق البرية في تركيا، فهي ممتعة للغاية، وقد كانت رحلتي آخر أسبوع من أكتوبر، الى الجنوب الغربي التركي، وأبرز المدن أزمير وبودروم، وكان الطقس رائعاً، وكأنك في موسم ربيعٍ عائد.
وسبق لي أن زرت انقرة وكارابوك، لكنني لا اذكر تميزاً سياحياً قي المدينتين، سوى أن الطريق ممتع، وهذه أحد الخصائص التركية، وهي وجود ونظافة الخدمات في محطات الوقود والاستراحات في تركيا، ولاحظتُ أمر ذكّرني بحديث أحد اقربائي من كبار السن رحمه الله، والذي كان ينصحنا بأخذ مساحة زمن في التوقف في طرق الخليج، التي قد تكون صحراء، أو بعض النبت وتزدان عند ربيع الوسمي كما نسميه في الخليج العربي. فقد كان يقول لي الخال الشيخ عبد الله المبارك يا ولدي، لماذا الاستعجال ساعة أو ساعتين لن تضرك في عمرك: تجول في هذه الأرض حين تتوقف للوقود، وخذ متعة الشاي والقهوة فيها. في تركيا هنا عرف راسخ حيث تجد أن الأخوة الأتراك يتوقفون، ويأخذون قهوتهم ووجبتهم في هذه الاستراحات النظيفة المنظمة، التي لا ترى لها مثيلاً في المنطقة العربية حسب معلوماتي، وإن تحسنت بعض الخدمات، المهم أنني مارست طباع الأخوة الاتراك، ولفت نظري لذة الطعام ونظافة المكان الذي لا يفرق عن كثير من مطاعم المدن. وتكاد لا تفقد في كل محطات الاستراحات التركية، اللصيقة بمحطات الوقود هذه الثلاثية، مطعم جيد وبقالة قد تكون كبيرة، ومصليات ومياضئها، للنساء وللرجال، وهناك شكوى مؤلمة يرصدها الأخوة الاتراك، وهي ظاهرة مؤسفة تتكرر في بعض البلدان الإسلامية، وهي قلة مرتادي المساجد، من شريحة الشباب، وهي مؤشر مؤلم لا لكون الصلاة عبادة فريضة فقط، ولكنها مؤشر لحياة راشدة أفضل، تساهم في تهذيب الأخلاق، وإن كان البعض لا يلتزم بروح الصلاة في حياته الاجتماعية، فلا تنهاه عما يجب أن ينتهي منه. لكن مع ذالك ترى المصلين في كل توقف في المحطات، وترصد بوضوح أهمية وجود هذه المصليات، لدى المجتمع الذي انعكس على مشاريع استراحات الطرق، فوجدها المصلي المسلم والمصلية المسلمة متوفرة ومرتبة، في درجات نظافة تتفاوت ولكنها مقبولة بالجملة، ولعل هذا الغرس الذي نراه في تركيا اليوم يقوم على ثنائيتين، الأولى تاريخ المساجد في البيئة العثمانية القديمة، واحترام المصلين اجتماعيا، وهذا شهدته بنفسي في التعامل مع عموم أفراد المجتمع، الثاني اهتمام التجربة التركية الحديثة، لحزب العدالة الحاكم بمنشآت العبادة، فهي تكاد تتوفر في كل مرفق للدولة، في المطارات وغيرها. لكن هناك بُعدٌ له علاقة بالمجهر الحضاري الذي اشرتُ له، وهو توفير وتنظيم دورات المياه، ورعايتها في تركيا، ولعلي حين أسأل القارئ الكريم، في تجربته السياحية في الغرب عموماً، هل تتوفر دورات المياه، ومستوى نظافتها، فأحسب أن كل من جرب السفر لهذه الدول يدرك المشكلة، ولقد وجدت معاناة بعض المسافرين في نقص هذا المرفق الحيوي لحياة الناس، في عدة محطات اوربية وأمريكية داخل المدن وخارجها، وأحسبُ أن توفير هذا المرفق، هو مسؤولية أخلاقية على الدولة والقطاع الخاص، خاصة لذوي الأمراض وكبار السن، رغم أنهُ حاجة لكل فرد. ولذالك أعتقد أن هذا المؤشر شاهد على قضية لها مدار تاريخي، في فارق النظافة بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، تحدثت عنه ووثقته زيجرد هونيكه، في كتاب شمس الله تشرق على الغرب. في تركيا الحديثة استثمرت هذه المرافق المتوفرة لخدمة المساجد، وفُصلت عنها كخدمة عامة لكل من مر بالشارع، مع بقائها لخدمة المصلين، وارى عملية تأجيرها، لمن يقوم على نظافتها ويأخذ أجرة رمزية على ذالك، مع الحفاظ على المرفق، ظاهرة حضارية، أما في حالة الاستراحات فهي مجانية، ولقصة الرحلة بقية.
السياحة الفكرية في تركيا مهنا الحبيل تأخرت رحلتي السياحية بين المدن التركية عشرة أعوام، حيث…
الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر مهنا الحبيل يستشكل البعض في توسيع رؤية المقاصد…
سؤال الدولة الإسلامي والاستئناف الفكري مهنا الحبيل وقفنا في إعادة تحرير النموذج الماليزي على سؤال…
أبو بكر الصديق في عالمنا اليوم مهنا الحبيل إن العودة للحياة الإسلامية الأولى، وخاصة الصدر…
المرجع الأخلاقي للعالم الجديد مهنا الحبيل إن المقياس الذي يعكس بدقة، حقيقة الكوارث التي يعيشها…
المستقبل التعليمي لأجيالنا في المهجر الغربي مهنا الحبيل كانت أنباء التطورات في كل من ألمانيا…