مهنا الحبيل
27/9/2022
ترتبط رياح الأفكار الثائرة وحركة اضطرابها المستمرة، بالواقع السياسي الذي تعيشه الأمم، وليست حالة الوطن العربي في معزلٍ عن السياق العالمي، غير أن هناك تجارب أشرقت في دول مختلفة من هذا العالم، قاربت الوصول إلى قاعدة الانطلاق الأولى، وهي الاستقرار السياسي وسيادة القانون، والفارق هنا بين القانون الذي يضمن المشاركة الشعبية، والقانون الذي يفرضه المستبد، هو أن القانون الأوّل يُنمّي ذات المواطنة الحقوقية وبعدها الإنساني، ويعزز المشاركة والتعايش ويُنظم الخلاف بين أطياف الوطن.
أما قانون المستبدين فهو ينحتُ الذات الفردية لإنسان الوطن، ويسحقه من الداخل وهو ليس على مستوى واحد، ففيه ما هو أخف ضرراً من غيره، وفيه من هو مستبد لحماية حكمه، لكنه يحمل مشاعر حريصة على شعبه، فهو أفضل من جوقة المتوحشين الذين لا مشترك أخلاقي يحمي الناس منهم، ولا ولاء وطني يُشركهم مع شعوبهم.
فالوطن هنا هو ذات الحاكم والحاكم هو الوطن، الذي يُروّج باسمه لولاء الناس مالم نقل لعبادة الفرد القائم بسيفه على رقاب الخلق، ويُدبج لهذا البغي بأرضية دينية، ولكون الدين ثابت تاريخي في رحلة الأمم، وبسبب أن العرب ولدت أُمتهم الجديدة بالإسلام، فالإسلام يظل مظلة الاستثمار، لتلك الطغمة حتى لو هُدِمت مبادئه وهُدّمت أركانه تحت أقدامهم.
هنا تُفهم دورات الانهيار والصراع، وعلاقتها المستمرة مع الجدل الديني، فينقسم الشباب إلى عدة توجهات، في ظل أوطان تسقط تحت التوحش العسكري، الذي يتبادل فيه أمواج الفتنة قوى النظام المتعددة، أو حتى بعضُ المعارضات حين تنحرف، وتصب بأسّها على بقية الشعب، أو حتى من خلال ما تخلقه الحروب على نفسية الفرد والشاب، وقد يكون الانهيار بسبب القهر السياسي المستمر مع حقيبة الاعتقالات الدورية، وضيق الوضع الاقتصادي، وصعود سلوكيات التنمّر في أخلاق الشعوب، وتراجع الرحمة والدعم النفسي.
وهي سمات تكاد تهيمن على خارطة الوطن العربي، وتكافح أوطان أخرى للبقاء في ظل محدود، وحتى مع بقاء بعض هذه الدول في الظل الهادئ نسبياً، فإن أمواج الصراعات وما تخلقه الصيرورة الكارثية لمستقبل الإنسان العربي، وتأثير عالم الأفكار عليه، فإن حلبة الجدل والصراع الفكري، وتبادل الاتهامات تتوسع بين هذه الأطياف وتنقسم على ذاتها وفي ذاتها، فتظهر على السطح أرضية صراع صاخب، لا مساحة فيه للتفكّر ولا التأويل المنطقي، وتهيمن روح الثأر والاستقطاب المنبري لاستبقاء جمهور كل تيار، من غلبة التيار الآخر أو لخشية ذلك التوجه أو ذاك، من فقدان أرضيته الشعبية، أو قوته الشبابية.
إذن هذه الرياح هي المقصودة في جدل مواسم السقوط السياسي العسكري الصعب، ورغم أن تجارب أمم أخرى خلقت أرضية لتفاهمات فكرية، أسست لمستقبل مواطنة أفضل أو هيئات تأسيسية حقوقية مشتركة، كمفاهيم تروّج كميثاق اجتماعي، قبل أن تصل لعقد اجتماعي دستوري سياسي، إلا أنه عربياً لا يُختط المشهد نحو هذا النسق الإيجابي، بل التهادم السلبي الشرس هو الذي يسود.
وفي الحالة العربية ينقسم واقع الشباب في أتون هذه العواصف، إلى ثلاثة مسارات، كلها تتأثر من الناتج المنظور لواقع هذه الأوطان وواقع إنسانها فيه، ولو استعدنا أوائل الربيع العربي، بغض النظر عن مآله ونقد تجاربه، سنجد أن الشباب العربي، عند أول شعوره أن هناك فرصة لدولة مواطنة مشتركة، فيها مساحة من الحرية والمشاركة الشعبية، بدأ يفتح الأبواب ذاتياً ويتجاوز الخطوط التي تعزل بينه وبين شركاء الوطن، بين الطوائف والعرقيات وبين التيارات الإسلامية والعلمانية، وهو ما يعني أن جزءً مهماً اليوم من ظاهرة الصراع والتنابز والتكفير الديني أو المدني، هو انعكاس لهذا السقوط وللأزمة النفسية فيه، وليس نتيجة حوارات انتهى لها الفرقاء.
إن المسار الأوّل لصراع الشباب، يدور حول حضور الدين بالجملة في قضايا الشعب والنهضة به، فهو في اعتقادهم أمرٌ مرفوض بذاته، وإيمانهم بعلاقة الإنسان مع ربه مفهوم يعيش تصحراً قاسياً، بعضه ينتهي إلى إلحاد هجومي على الإسلام أو على اتجاهات تدين، وبعضهم ينكفيء على نفسه من شدة الكآبة التي تجثم على صدره، وفزعه من استخدام الإسلام مطية لبطش الأنظمة، أو استغلال الأفراد أو الجماعات للصفة الدينية.
أما المسار الثاني فهو مسار في داخل التيارات الإسلامية ذاتها، وهو حالة انقسام غريبة متعددة، فهو انقسام يتحول إلى صراع بين هذه الاتجاهات الدينية تحت لافتة الانتماء الإسلامي، ومن الصعب أن نحصر هذه الصراعات، فهي على سبيل المثال قد تنطلق من اتجاهات مذهبية قديمة كالأشعرية والتيمية، والصراع هنا يزداد قسوة في داخلها، أما الثاني فهو حالة ارتداد ترفض مفاهيم كبرى عن رحلة الإسلام في تاريخ الأرض وفي الشعوب، وتعجز عن إدراك أن أصوله المقاصدية هي السر، في معنى خاتميته واحتضانه لشعوب الأرض المتعددة.
فهنا ظن هذا المسار التراثي أو المذهبي أو التربوي، وهو تيار فاعل على الأرض واستقطاب الشباب، بأن حماية قاعدته يجب أن تقوم على هدم مأسسة فكرة النهضة، ورفض فلسفة المعرفة الإسلامية، باعتبارها صورة انهزامية أمام الغرب، تسببت في انتكاسات الشباب، وهذا اختزال كارثي عَمَد لثقافة الهدم والتشكيك منذ نشأة فكر المقاصد، القديم والجديد، ظناً منه أن ذلك يحمي بنيته العقدية المذهبية أو خشية من تسرّب شبابه بعيداً عن رابطة تياره، وتراه يخلط بغرابة فكر المستشرقين ومفهوم علمنة الدين، مع فكر المقاصد الذي ينطلق من فلسفة إسلامية مستقلة.
أما الثالث فهو الشاب المتأمل لهذا الصخب والمعارك، التي تشتعل في بيئة الإسلاميين، وتؤسس عبرها معايير جديدة للانتماء وتتصدر مهام الهدم للمختلف إسلامياً على أي مهام أخرى، وكل هذه المعارك تستخدم مظلة الإذعان للشريعة لتكفير أو تضليل مخالفيها باعتبارهم خصوم لخطابها، فما هو مفهوم الإذعان الأصلي؟