الشرق المسلم.. سؤال القوة أم الاستقرار
مهنا الحبيل
من المهم حين نطرح قضية ترتيب الراحلة في قصة الشرق، أن نضع الحصان قبل العربة، ثم نطرح السؤال الأول هل العجز الذي كشفه مشهد مأساة غزة، هو ضعف جماعي أممي، أم أنهُ ضعف تشكل في كل قُطرٍ بوضع ذاتي؟
لقد حرصت المركزية الغربية بالفعل، على بقاء ضعف الدول المسلمة، وقطع أي طريق للوحدة، حتى لو كانت كونفدرالية، بل حتى لو كان مجرد اتحاد مصالح، يجمع بين دولتين وأكثر، وكان الغرب يقلق من أي إطار اتحادي، حتى لو كان في منظومة دول إقليمية، وربما لو تأملنا اليوم في تعطيل تلك المحاولات لوجدنا دوراً دولياً فيها، وإن كان هذا التعطيل يحرك من داخل الدول العربية أو المسلمة.
ومع مسؤولية الأنظمة الرسمية ذاتها، في عدم دفع أطر الوحدة، إلى بنية تعاضد ومصالح، لا خطابات شعبوية، غير أن هذا المآل هو في ذاته، كان هدفاً للمركزية الغربية، في ضمان تدفق مصالحها من كل قُطر، وفي حماية مفهوم الدفاع الاستراتيجي عن وجودية الكيان الصهيوني، ومع كثرة استشهاد أنظمة الاستبداد العربي بالخطر الصهيوني، وتوظيف ذلك لقمع شعوبهم وتشريع مظالمهم، إلا أن الفكرة هنا صحيحة، وقد تصل إلى أن رأس النظام نفسه، قد يكون متواطئ ضد قوة بلده وتحالفها مع قطرٍ مسلم آخر، وهو يزايد باسم فلسطين.
فضمان ضعف كل دولة يؤسس لأمة مريضة هزيلة، يسهل اشعال الفتن بينها، واستنزافها وحصد ثروتها باسم أمنها واقتصادها لصالح الغرب، هنا برز السؤال الفكري القديم، كيف تؤسس رابطة وثقى بين الحاكم والمجتمع، وكيف يصل شعبَ كلِ قطر إلى معادلة استقرار سياسي، وفي الأصل لن تكون هناك دولة رشيدة دون عدالة سياسية، ومشاركة شعبية، بغض النظر عن كون ذلك في إطار ديمقراطي أو إصلاحي ملكي أو جمهوري، فالاستقرار الاجتماعي والعدالة السياسية، كما قال مهاتير محمد هما أصلا قوة ونهضة الدولة.
لكن هذا المدار لم يتحقق وعاشت الأمة في الغالبية الساحقة من اقطارها، صراع في داخلها، وفي مآل الربيع العربي، عاد طرح هذا السؤال من جديد، أين الطريق لمقاربة الوصول الى هذه الثنائية في الدولة، وأين ممكن البدأ لصالح هذا المشروع، وما هو السبيل له، هل بالضرورة يُبنى على دولة تؤسسها ثورة.
أم رحلة تساعد للوصول إلى مستوى دولة، يُعترف فيها بالمواطن وليس الكائن المحسوب من ممتلكات النظام، ويُضبط الكفاح قبل انهيار الأوطان، إننا ندرك رفض الأنظمة لمشاريع الإصلاح، وحربها على حَمَلَتِها، وبالتالي خسائر الشعب الذي ترتد عليه وعلى استقراره، ولذلك نحتاج أن نطرح مأسسة مسيرة الإصلاح، وأن شرطها في بقاء الدولة.
عبرنا إلى هذا المنعطف أو عنق الزجاجة لنراجع ذات السؤال، كيف تبدأ رحلة العودة إلى الوطن الجديد، دون التخلي عن مبادئ الربيع العربي، الأساسية، في الحرية السياسية والمشاركة الشعبية وتوزيع الثروة، وتأسيس المرجعية الدستورية الملزمة، لا النصية الشكلية التي يهوي عليها كل مستبد بحسب موسمه.
وبعض هؤلاء المستبدون وصلوا إلى الحكم بتصويت شعبي، بل إن القوى التي زعمت انها ذات مرجعية ديمقراطية مطلقة، انقلبت إلى تأييد مطلق للمستبد، أو سلبية شمولية تجاهه حتى في المشاعر، بحجة أن خصومهم الإسلاميين هم وقود المعركة.
وهذا يعني أن البنية التأسيسية في قناعات الشعوب والنخب معا، كانت لا تمثل تلك المبادئ، أو ليس لديها أرضية صلبة للدفاع عنها، يجب هنا أن نُشير إلى أن فكرة وصول الشعب إلى مضمون موحد ليست سهلة، وان حتى في تاريخ الثورات الغربية، فإن زحف الشعوب إلى إعلان منصة حكم مستقلة، تهوي بأطر الاستبداد بمحاكم ثورية، لا تمثل بالضرورة الغالبية العددية مطلقا، ولكنها الطليعة الشعبية التي قادت الحراك المؤيد للثوار.
فإذا أضفنا إلى ذلك احتمالية فساد الثورات ذاتها، أو تورطها الدموي الموسع، فإن السؤال يتركز هنا من جديد، أين هو ذلك الوطن الجديد الذي يؤسس لمبادئ العدالة المنشودة، ولذلك فاعتبار الديمقراطية كمصطلح وبيان ثوري، مخرجاً مطلقاً للمستقبل، هو في ذاته أمر خاطئ، ما هو المقصود بالقاعدة الديمقراطية التي يجب أن يصل لها هذا الوطن أو ذاك، وما هي معايير التغيير الإيجابي الذي نقيس عليه، الوصول للهدف الحلم، والذي يحقق ثنائية العدالة والاستقرار، والعدالة هنا بكامل مفهومها.
وعليه فإن التفكير اليوم يجب أن ينصب، على إخراج هذه الأوطان من وحل الانهيارات التي تتداعي على دول الشرق، وخاصة في الوطن العربي، وأن يستعاد أكبر مساحة من الاستقرار، ثم يستأنف الكفاح السياسي، أكان للإصلاح أم للتغيير، دون أي يتحول مشروع الأمل، على بيدر بيد دولة تستثمر في تضحيات الشعب، أو جماعات تستنزف جراحه، وتغرقه في مآل أسوء.
حينها سوف نبصر أن الحد الأدنى من هذا المستوى، ربما كان يساهم في الدفاع عن غزة على سبيل المثال، أفضل من واقعنا المر، وأنه كلما تحققت مساحة تقدم في هذا الاستقرار اقتربنا من آمال الشعب المهدرة.
هذه الخلاصة تستدعي بعث الجدل الإستراتيجي، والتوقف عن الصياح العاطفي، لتتحقق الرؤية التي يحتاجها الخطاب الإسلامي، والوطني العام للخروج من عنق الزجاجة، بتحريك وسائط التسبب لا اعتذارية الملاعنة للخصوم، فهذه الملاعنة دون السعي للخروج لن تنقذ الضحية، ولكن ستزيد مساحة العذاب والسقوط.