مهنا الحبيل
12/11/2023
لقد كانت اندفاعة مالك بن نبي في شروط النهضة، متدفقة حيوية لا حدود لها، في تقديره لرسالة جمال الدين الأفغاني، كبعث شرقي ملهم، لم يحرك فقط آفاق النهضة، ولكنه هزّ الوعي الديني والتبصّر الذي ظل يراوح عليه مالك ابن نبي، وهو يهاجم بقسوة التصوف (الوثني)، وهي عبارة عنيفة من مفكر النهضة الكبير، غير أن لها سياقات تُفهم في الدور الوظيفي الذي مثلته تلك الزوايا وتكيات الطرق، من مصالح رُصفت لصالح المستعمر، وعززت اغلاق العقل المسلم، فتعطلت مسيرة التحرر في الجزائر والنهضة معاً.
وحين نستعرض تلك الأجواء التي أحاطت بميلاد سؤال النهضة، فهي تساعدنا على إعادة التوازن المنصف لفهم وعرض الأفكار، التي سيطرت على جغرافيا الشرق حينها، ثم ما أعقبها من تجاذبات قوية وعنيفة بين السلفية والصوفية، وحاجتنا إلى فرز أمين ومنصف لعرض رسالة كل منظومة منهما، وتبيان الفارق داخل كل من السلفية والصوفية، فهما اليوم صوفيات وسلفيات مختلفة، فكيف نفهم التقاء أو افتراق فكر النهضة معهما عند سؤال الإحياء الأول، وارتباطه على الخصوص بحياة ابن نبي.
ففي حين أكد مالك بن نبي على أن جمعية العلماء، وكفاح الإمام ابن باديس كان صدىً للعروة الوثقى، فانتفضت حركة العقل الإيماني، وبعثت روحاً جديدة في الشرق، إلا أنه كان يستدعي جهاد الأمير عبد القادر الجزائري، وأن لحظة سحق حركته بعد النصر الروحي والقيمي لجهاده، شكلت منعطف غيبةٍ كارثيةٍ كبرى على الجزائر.
ونحن نتحدث عن نقد مالك بن نبي للصوفية، تبرز شخصية الأمير عبد القادر والسنوسيين في ليبيا شيوخ الجهاد لعمر المختار وغيرهم، اللذين كانت لهم قدمٌ راسخة في التصوف، وكان هذا التصوف ممثلاً للروح الجهادية، التي قررها مالك بن نبي كضرورة، للخروج من هيكل المستعمرين، وهل أنهك الروس في ذروة قهرهم وطغيانهم، إلا جهاد الصوفية في راية الإمام شامل الدغستاني.
وقس على ذلك افريقيا السمراء، وقبائل الاناضول حين أشرق الإسلام في قلبهم عبر شيوخ التصوف، فخرجت تلك القبائل البدوية من تاريخ تخلف، تتلاعب به الحصون المسيحية، إلى قوة أخلاقية روحية، كانت الأساس في إنشاء دولة قوية تتوسط العالم بين أوروبا وآسيا، هذا قبل أن تسقط الدولة العثمانية في عمليات تخلف وعنصرية وطقوسية، غيرت معالم الدين في سياسة الحكم، وسقطت دورات عديدة من تاريخها، في مآسي سلاطينها وما صنعوه.
هذه الروح السلبية هي التي ظهر أن مالك بن نبي يعنيها، حيث صعدت في الجانب الآخر من الحياة العثمانية، هذه الطقوس الصوفية، الذي قال عنها في شروط النهضة، (أنه من الطبيعي أن تثور على عمائمها وطرابيشها قبعة اتاتورك)، ولكن حديثه مجمل هنا، فاستدعاء تصوف النورسي وحركته مهم لفهم التصوف الإيجابي مقابل ذلك التصوف الطقوسي، الذي ساهم في سقوط الدولة العثمانية عبر الطاقة السلبية التي بعثها، وعبر علاقة السلاطين معها.
ولا نحكم عليها بخطاب مالك بن نبي بالضرورة، ولكن نحتاج تفكيك دور التكايا ما بين حق العبادة والتبتل، وبين اغلاق العقل الإسلامي وتعطيل سنة التدافع الكوني، والذي بذاته مثل حالة ضعف لصالح الاستعمار، وأهميتها هنا أنها انتشرت تحت الرداء العثماني، حيث انطلقت الفكرة السلفية في مواجهتها، والنموذج الذي يقدمه بن نبي، يُفهم منه لماذا حصدت الفكرة السلفية ذلك الحضور، والذي تقاطع نسبياً مع حركة الإحياء ذاتها، قبل أن يعاد توظيف قطاع منها لصالح النسخة (الوهابية السعودية)، والاستثمار الإمبريالي فيه.
فهنا نفهم السياق في العلاقة بين الصوفية والسلفية، وأثر الصوفية في حاضر العالم المسلم، منذ انطلاقة دعوة الإصلاح الكبرى، كونها أرضية اجتماعية دينية منتشرة في كل الشرق، ودلائل استدعاء مالك بن نبي لها في شروط النهضة.
إن هذا المسار في واقع عالم الشرق الذي وُلدت فيه فلسفة بن نبي، يُشير لنا أيضا في معنى التأثير السلفي، على حاضر العالم الإسلامي، وأنه تأثر فكري مقابل لذلك السقوط الذي بسطت أرضيته تلك الطرقية الطقوسية، وهي منهجية مبررة في فهم مساهمة الفكرة السلفية في إنقاذ العقل المسلم المعاصر، وتقاطعه مع دعوة النهضة والإحياء.
لكن التحول إلى حالة (وثنية)، كما جرى من قطاع صوفي هاجمه بن نبي، تكرر أيضاً في مذاهب سلفية، رفضت التغيير وفقه الحقوق والنهضة المقاصدي، وكان توجيهها أيضا من قبل السلطة السياسية، كما أن حالة الهجوم على فكر النهضة بما فيها مبادئ مالك بن نبي، تعود اليوم لتتحد مع مذهبية تراثية، تجتمع معها في التضليل أو التكفير الضمني للبعث الجديد، نحو تحرير السؤال التاريخي، لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
والميزان هنا، هو أن في كل مدرسة وتيار خيرية، وأزمة فكرية معاً، تصعد الأولى حين تخلق من حضورها في ضمير الشعوب، بعثاً روحياً أو فكرياً أخلاقياً، وتسقط في الثانية حين تكون مجرد أداة للمستبد، فتُجيّرها السلطة الدولية الكبرى لحصار الشرق، فتُهدر دماء المسلمين، بأيدي تيارات دينية وتقطع الطرق على أفكار النهضة بتكفير دعاته، وياله من واقع لا تزال حماقته تعصر قلب الشرق اليوم.
فالوثنية حين تؤخذ كمصطلح يعني جذب الأمة في صراع عدمي، بين المذاهب التي تسعها الشريعة، أو الانخراط في ذروة الأزمة الوطنية لكل قطر مسلم، في تحريك الصراعات التفصيلية داخل الشعب وإلهائه، وتقديم كل ذلك على خيارات التعبد العمراني الكبرى، لتحقيق العدالة والنهضة، فهي ظاهرة أيضاً في حالات سلفية، وليس الأمر محصوراً بالجامية فقط، والتي بات لها افرع دولية عديدة، ولكن تسخير السلطة السياسية قائم أيضاً في جماعات سلفية أخرى، وهو ما يجعلنا من جديد نفصل بين السلفية (الوثنية) مع ولي الأمر، والسلفية الإصلاحية، وهي قاعدة تشمل الصوفية أيضاً.