الظروف المحيطة بإحياء علوم الدين
مهنا الحبيل
يشير الإمام الغزالي بوضوح في كتابه قواعد العقائد، على أنه ينتهج فيه نظام المجادلة الفكري ويحيل له في الإحياء، وتبرز فيه فلسفته بصورة أكبر، ولذلك يجب أن نُنبه هنا الى أن إحياء علوم الدين هو موسوعة ضخمة من الكتب، الامام نفسه يسمي كل فصل منه كتاباً، وهو يحتاج الى دراسات دقيقة لتوزيع اقسامه، ثم يُستَعرض فيه فقه الإمام مع كتبه الأخرى، ولعل بعض اجمالات الإمام الغزالي واغراقه في العزلة والوعظ الشديد رحمه الله، وما قد يفهم منها محادة لكل أمور الدنيا التي سيطرت على الإحياء، لو عُرضت عليه في صورة نقاش وتوثق، لقال أنني لم أرمِ الى هذا الأمر، وسرد توضيحاً آخر له.
ولذلك فإن النقاش الذي يدور حول كثرة الأحاديث الموضوعة أو شديدة الضعف، والتي قد لا يكون لها أي أصل عقدي، وبعضها تخالف كليات قرآنية وكونية كبرى في الإحياء، ليست القضية فيها، وصل هذه الأحاديث فالوصل هنا لا يغير من حقيقة الاستدلال بما لم يصح، بخلل قوي في السند أو اضطراب في المتن، يُخالف منهجية التشريع وأصل التعبد الإلهي للمسلمين، وتاريخ الكون والنبوات في القرآن الكريم، والاعتذار عن ذلك بأنهُ يدفع لروحانية أكبر، مبرر مرفوض، فهذا العذر قد يتسبب في خلل معرفي وعقدي بين المسلمين، وقد يبقى لمئات السنين.
وسواء صح عن الإمام الغزالي رحمه الله قبل رحيله، الحاجة الى التحقق من صحة الأحاديث أو لم يصح، فإنه لا يُشك في أن تلك الصحة هي مقصده، والإشكال لدي في تلك التعميمات والتصنيفات والسِير والتراجم، التي نقلت أيضا بتوسع ضخم عن الإسرائيليات، وحصرت الصالحين بما فيهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، في صومعة بكاء استغرقت كامل الحياة، أو قطعت عمرهم وماتوا بين بكاء وجزع، مع توصيفات لا تقبل عن آدمي، حتى لو قيل أنها ضمن خرق العادات، فلا يمكن أن توثّق دون دليل يقيني عن الأنبياء، فكيف اذا كانت موسّعة في سير كثيرة للصالحين، لا نعلم صحتها.
ومع أن الإمام يشير الى التوازن الذي أصّله النبي صلى الله عليه وسلم، بين الرجاء والخوف، غير أن غلبة تلك المشاهد وسيطرتها في الإحياء، تكاد تَظلِمُ كل مساحة علم وفكر وفقه، حررها الإمام العزالي، بسبب ما عايشه شخصياً، وموقفه من مخالطة حلقات الجدل الفلسفي، بل وتصدره فيها وحالة الشك التي غشته، وخشيته من التصحر القلبي ثم الانقطاع الى الله، لحماية نفسه من الفتنة والكِبر الذي يهلك المسلم ويسقط نيته.
ومما يقتضي الإشارة هنا، أن الغزالي في زمننا المعاصر لم يحظَ بما حظي به بعض العلماء كالإمام ابن تيمية رحمه الله، والذي دُرس من معاصرين، من أنصار مذهبه ومدرسته، ومن خارجها، وإن كان حضور الأمام ابن تيمية في قضايا الأمة الكبرى حينها، يبرز أكثر من الإمام الغزالي، وخاصة في الغزو التتري ومقاومته، ولكن مع الأسف ضاع فهم بعض علماء الأمة، فلم يوضع في سياق متوازن يؤخذ منهم ويرد عليهم، كمرجعية حضارية وتشريعية موحدة، وأُسقطت وحدة الاستدلال في الصراع المذهبي الشرس، بين الأشاعرة والحنابلة، وعلا صوت بعض الحمقى والموتورين، قاصري الفهم والفكر، وتحولت القضية الى صراع استثمر فيه الاستبداد السياسي قديماً وحديثاً.
وحين تستعرض حياة الإمام الغزالي ستجد مداراً مهماُ لبعض انعطافاته، وهو دور الواقع السياسي المر، والانحطاط الاجتماعي واضطراب الكليات الإيمانية، الذي تزامن بصعود القوة السياسية المناهضة للأمة الإسلامية المركزية، التي يمثلها أهل السُنّة، واهتزاز العقائد العليا، وبالخصوص الإيمان بالله، معتقداً فطرياً يجده المسلم مشرقاُ في القرآن، والسقوط في جدل اللاهوت حول ذات الله عز وجل، والذي ينص الغزالي على ذمه مراراً وتكراراً.
ثم ما يعتقده الغزالي وشيخه الإمام الجويني، بان هذا الانهيار السياسي الذي كان يُقاوَم بوزير صالح (نظام الملك الطوسي) يُدافع عما تبقى من الدولة العباسية المستبدة والفاسدة، لكنها هي التي تحكم باسم الأمة وقد تفشّى فيها الفساد، ولكن أكثر مدار أثّر في الجويني وتلميذه، هو القوة الشرسة في الدولة التي تستطبن عقائد باطنية، تهدد الأصول الإيمانية، وهي تتحالف مع انتشار البعث الفلسفي الجديد، الذي سارت به الترجمات الكبرى، دون أن يجد من يدرك جوهر هذه الفلسفة ويُفكّك عمقها، ويعرض لرؤية العقل الإسلامي، هذا المشترك الفكري والسياسي سيطر على عقل الغزالي والجويني بحسب ما يرصده الباحث.
فهذا القلق الشرس، هو ما تسبب في القرون التي تلت في تمكين التصوف السلبي، وتعظيم العزلة على واجب المدافعة والمساءلة في علوم الأرض وقانون الخلق، وهنا مفصل مهم يحتاج الى بيان دقيق لفهم الأزمة، بين الفلسفة والتصوف في تاريخ المسلمين.
