مهنا الحبيل

20/9/2022

يكتنف الاختيارات العالمية ومنها جائزة البوكر، الصراع عن معيارية الانتخاب، فهناك بالفعل دوافع خاصة للرؤية الغربية، وبعض اختيارات الجوائز العالمية كومة من نصوص سوداء موغلة في الإحباط وشذوذ المشاعر والسلوك، يصبّها هذا الأديب الذي قد يكون يمتلك شاعرية خاصة، لكنه يمارس تدوين النص في كتلة مأزومة نفسياً واجتماعياً، قد تكون مشاركتها في رف الرواية دفعة إحباط وتيه لعقول الشباب ووجدانهم، وقد يكون مصير هذا الروائي مأساوي، في هذه الحالة أعتقد أن تحرير الموقف الفكري الأخلاقي مشروع لنقض الرواية.

وفي حالات أخرى يقع الانتخاب على إبداع أدبي بالفعل، يصيغ ذاكرة حياة للمجتمع المحلي، يساعد في تعزيز مراجعة الذات والسلوك في المجتمع، وقد لا تفعل بتقدير البعض، لأنها لم تشتغل بما يجب أن يكون، ولكنها نص أدبي روائي يعرض لما كان في حياة الواقع، أو قاربه المخيال الاجتماعي، وهنا ننظر ايضاً لمشاعر البعد الأُسري للمجتمع وقلقه الخاص ونتفهمه، ونقول إن النقد الروائي يجب أن يُستثمر في ثقافة المجتمع، وفي المؤسسات ذات العلاقة لصناعة علاقة أفضل للأسرة الصغيرة، التي تشكل نواة المجتمع، بل مستقبل استقراراه ونهضته.

في سيدات القمر حضر الدين في عدة صور من مسرحها الحاشد، برز ذلك في استحضار خولة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في أحد مسانيد السنة النبوية وهو مسند الربيع، كان الحديث هنا مضاد للأفكار التي تروج في المجتمع، عبر الطقوس المتأثرة بالجاهلية الاجتماعية ضد المرأة، والتي تخالف هدي الإسلام في حقوقها الأصلية.

ويقودنا مسرح الرواية إلى ذلك التاريخ المتواصل التأثير، وبالذات شخصية الزعيم الاجتماعي أو الوجيه الذي يكون شيخاً أو وجيهاً (متدين)، كالشيخ مسعود وهو يمثل غاية البطش والقسوة، للدرجة التي يلفظ فيها ابن عزان النفس الأخير لحمّى اصابته، كان من الممكن أن يوجد له دواء في مشافي مسقط، لأن الشيخ مسعود لا يريد أن يمنح (الرنج روفر) ولو ليوم أو نهار لإنقاذ فلذة كبد عزان وزوجته.

ورغم قسوة سليمان التاجر إلا أن الرواية أفردت له موقفاً مهماً، في معنى الاحتساب الديني، حين قرر فتح مستودعات الغذاء في موسم الفيضانات لإطعام الناس مجاناً حتى نفذت خزائنه، رسمت الرواية أيضا تاريخ المواجهات السياسية الاجتماعية، التي كانت تدور رحاها في ظل الصراع بين مسقط والدعم الإنجليزي وبين الأئمة المتدينون، وذاكرة المحرومين في هامشها، وبصمات المنافي.

وربما أن استيقاظ عمان على وحدة اجتماعية وصناعة وطن جامع اليوم، وتجاوز الماضي أهم خلاصات عهد النهضة الجديد الذي اشرق عليها، فالبقاء في دائرة الصراع الذي شارك فيه المستعمرون الراحلون، عائق كبير أمام نهضة الشعوب.

لقد كان أخطر ملف سعت سيدات القمر لبعثه بقوة، في إنجاز ادبي تاريخي للمنطقة، هو ملف العبودية في الخليج العربي، لقد كانت البطلة الأخرى للرواية (العبدة) ظريفة، وابنها سنجور، لقد فجّرت جوخة الحارثي القصة المكبوتة، وطرحت بقوة واجب الإعتذار المؤجل في الخليج العربي، ومنه عُمان، ربما كان من الظلم بمكان أن توصف الرواية في مصادر ويكيبيديا، أنها تظهر عمان مركز لتجارة الرقيق في ذلك الزمن، فهذا يختزل تاريخ عمان المتعدد.

لكنه في ذات الوقت يعيد مصارحة الذات الإنسانية، في عمان وفي بقية الخليج العربي، بالحقيقة الصادمة، وهي أن ما كان يمارس على أهلنا وآبائنا، الذين يمتد بيننا وفينا معهم شراكتهم الوطنية وانتمائهم الاجتماعي، من عبودية، كان مظلمة كبيرة، وتوحش شرس لا أخلاق له بل خيانة للإسلام ذاته، وهي صفحات مؤلمة سوداء يجب أن يُحرّر فيها اعتذار صريح، وقد لا حظت أن دولة قطر استبقت تنظيم كاس العالم، فأفردت لهذا الملف بيت ابن جلمود، وهو متحف محلي في منطقة الدوحة القديمة (مشيرب)، يشرح آلام تلك العبودية ويسجل رحلة اسقاطها.

وهي واسعة الذاكرة المرة في بقية مناطق الخليج العربي، وفي أقاليم السعودية، ولكن المشكلة هو أن تحرير هذه الموقف، واستعادة صرخات سنجور البلوشي، وغيره من الضحايا التي جلبت عبر سوق النخاسة البشع في تاريخ الخليج العربي، لم يحرّر صياغة الوعي فيه حتى اليوم، ولذلك كانت رواية جوخة الحارثي ثورة أخلاق مبدأية تعيد التذكير بواجب التصحيح لذاكرة أجيالنا، والاعتذار الصريح الجلي، من تلك العبودية السوداء، ومن أثر ميراثها على أجيالنا الحديثة، وخاصة بقية اللغة العنصرية الخبيثة، ضد أصحاب البشرة السمراء من أهلنا.

وهنا لا بد أن أُذكّر بمختصر ما حررتُه في كتاب فكر السيرة، لتوصيف المشهد الذي جرى في الخليج، واستخدام المركز العماني وغيره في شراكة الغرب الاستعماري المتوحش، لتسويق سوق النخاسة الظالم، لا تلغي مسؤولية الشركاء، من تجار العبيد الظالمين من أهل الخليج، المستحقين للعقوبة دنياً وآخرة.

وموقف الإسلام من هذه الظاهرة هو ابطالها بالكلية، فهذه العبودية كانت تقوم على غزو التجارة المجرم لسواحل أفريقية وغيرها، ثم اختطاف أولئك الاحرار وبيعهم، ملف موجع في أنّات المفقودين من ذويهم في سفن الإجرام، وفي صرخة الرضيع الذي قذفوا به من السفينة فأحرقوا قلب أمه، فكانت حكايات ظريفة ورفيقاتها قصص من أحزان لها تاريخ من الواقع.

فلا علاقة لكل ذلك بمبادئ الأسر في الإسلام، المحددة والمشترطة والواجبة الإحسان في التعامل، وحتى تلك المساحة التي انتشرت في بعض الحروب وازدهرت فيها تجارة الرقيق، فقد خالفت الهدي الإسلامي لمقاصد الأسر، وعليه فحينها يجب أن يُحمى الاسارى بوسائط تضمن حقوقهم، حين يخل المسلمون وسلاطينهم بهذا الفقه.

أما الحالة المتأخرة في القرون الأخيرة في الخليج، فقد كانت جرائم حرب اختطفت أحرار من دورهم، وكفرت بحقوقهم وبمنهج الإسلام المعظم لهذه الحرمة الإنسانية، ثم وقعت وثيقة التزوير باسم دين الله.