مهنا الحبيل
ولم تجبه صوفي بكلمة، بل نهضت وطوّقت عنقه بذراعها وقبلت وجهه، ثم مدت يدها برشاقة لا نظير لها، وقالت له: خذ يدي وكن متى شئت زوجي.
روسو في قصة حب صوفي وإميل
يحاول روسو أن يَعبر من مرحلة الشباب الأولى، بعد أن اشتد عود فتاه إميل، إلى حقبة الشراكة الزوجية، ينداح روسو في لغة رومانسية أخاذة، في وصف عالم الحب العفيف حين يُفتح له الباب، عبر علاقة شاب وشابة عذرية، يُمهد فيها روسو لعقد اجتماعي من نوع آخر، وهنا روسو يؤسس لهذا التعاقد قبل عقد الفرد والدولة، في سبيل المواطنة الدستورية وعدالتها الاجتماعية التي يحلم بها روسو.
يُذهلك روسو في تحديد خطوط العلاقة وفي نمطِها، يحشد العرف والضمير الأخلاقي، والذي لا يُمكن أن يتمكن دون بعد ديني روحي، غير أن روسو وكما دللنا سابقاً، لا يُريد لهذا الدين أن يعود تحت قبضة الكنيسة، وإن كان رأى حضورها في عقد الزواج سياقاً مهماً يجب أن يستدعيه، غير أن روسو يُفجر في مكنونة مفرداته بين الحبيبين العشيقين، روحاً ملتهبة مشرئِبه للعناق والاندماج، تحت سقف الزواج، وتحت عهد ما يسميه روسو الكائن الأعظم أي (الله الخالق المصور).
يتفنن روسو في لهيب العشق وإثارته، ومع ذلك يربطه بشدة بثوب الحياء والعفة، يُحيل روسو النبل والتوازن الأخلاقي لأسرة صوفي الفقيرة، في تقرير ضمني منه، بأن البرتوكول الأخلاقي الاجتماعي، لا يخضع لطبقات الغِنى والتمكن السياسي، وإنما لأدب المنظومة الاجتماعية ورقي مشاعرها وتعاملها.
وبالطبع هو يستدعي هنا ميثاقه الأخلاقي، الذي ربّى عليه إميل، في ضبط حياته بين العقل والقلب، وفي مرابطته عند مسار القيم الإنسانية العليا للوطن الجديد، الذي يخطط روسو لإعلان بيانه الأوّل.
تأخذك الدهشة هنا بين قصتين، بين نموذج روسو وبين أن فرنسا قد دخلت بالفعل، في حالة من الإباحية وانتشار المعصية الجنسية في المجتمع، حسب وصف روسو نفسه، وحسب دلالات التاريخ الاجتماعي، غير أن هذا الواقع لم يتعرض بعد لمشروع التجريف الحداثي للتنوير الأخير، أي أن التنوير الأول ساهم في فك سلطان الكنيسة عن المجتمع، لكنه لم يسعى لإلغاء الدين الأخلاقي، فماذا كان يريد روسو من استدعاء هذه الكلاسيكية الرومانسية، وربطها بالأخلاق في حياة إميل؟
لا أعرف إذا كان روسو كان يستشرف الزمن الأخير الذي وصلت له أوروبا، وكيف تحولت حركة إسقاط القيود عن الحياة الجنسية، إلى عالم آخر من البحث عن مصادر الشهوة وفلسفة النزوة، التي خُلقت في أفكار ميشيل فوكو وغيره، وتلقفتها الرأسمالية الحداثية، حتى نُسخة الإسرائيلي نوح هرري اليوم.
وتم نقل مفهوم اللذة والشهوة، وحضور النزوة في مشاعر الذكر والأنثى، من مسطرة التقارب الطبيعية الفطرية، إلى نسف هذه الفطرة بالكلية، وتحويل عالم النزوة وتثويره، نحو المثلية القهرية، والتي في الحقيقة تُنتزع من كيانية الذكر والأُنثى وتهوي عليها، بفأس توحش مادي أحمق.
وهو هنا يُصّر على جدولة هذه الشهوة في إطار مقدس من الزوجية، ولكنه يعيد بعث التفاعل الرومانسي الغزير، بين الرجل والمرأة في إطار الحب الغليظ المتقد، فهل يعيدنا روسو إلى مشهد الغرب اليوم في الحياة الاجتماعية، أود هنا أن أؤكد على حقيقة مهمة، وهي أن الصورة التي يروج لها الإعلام الغربي عن أوروبا وامريكا الشمالية، بأن الحياة الجنسية المفتوحة وخاصة المثلية، باتت قيمة أصلية لكل شرائح المجتمع الغربي (الأبيض)، غير صحيح.
فنزعة الفطرة وعقيدة الحب بين المرأة والرجل، لا تزال حاضرة وأن الشوق لها مستمر، رغم تمكن الدعاية للمثلية القهرية، غير أن حرب الحداثة الرأسمالية على الذات الإنسانية تسعى لسرقة المشهد، وانزال الحكم الأخير على الغرب، ليسهل عولمته وسحق الجنوب الآخر في مصنعه المدمر.
وهنا تبرز مظلمة متعسفة كبرى تُسقط على عالم الأنوثة، تنزع فيها مساحة المرأة، في لغة الحب ولذة الهوى وطعم العشق، بين ذراعي الحبيب، ثم الاندماج الذاتي والرومانسي في حياة اجتماعية مشتركة، يُمثلها أي تعاقد زواج عرفي أو ديني حسب كل بيئة ومجتمع، هذه المظلمة تواصل تدحرجها على المرأة في العالم الحديث.
وهي تَستخدم لغة مضللة حين تخلط هذا الحق الفطري بالتعسف الذكوري ضد الأنثى، أو الرجولي الزوجي الخشن ضد المرأة، والحقيقة أن هذا الدور تمارسه الراديكالية النسوية، وهي في خدمة الحداثة المادوية في الغرب، على ذات الإنسانية الغربية، أو في عالم الجنوب، عبر تفعيل الأدوات الجديدة للكولونيالية، هي حرب متوحشة على المرأة وصراع عدمي ضد الأنثى.