العقل العلماني السلفي

مهنا الحبيل

19/4/2022

هل التخلف الفكري مقرون بذاكرة ما تقدم من التاريخ بالضرورة، أم بالتقليد في أمور خاطئة أو في دلالة العجز أو التحجج عن الحق بالتمسك بما سلف من إرث الآباء، ومن الآباء المقصودين هنا، هل هم آباء الولادة والنسل أم آباء الفكرة والرأي.

يتوجه الحديث دوماً في معنى السلف والسلفية إلى حالة من التيار الإسلامي، تتحفظ على الجديد وقد ترفضه، وقد شرحنا ذلك في مساحات سابقة، وفرزنا وفصّلنا في مواقف التيارات السلفية الإسلامية، والتي تشمل أطيافاً عديدة، بين بعض التقليدي المضر بمجتمعه وبفقه الشريعة، وبين الإصلاحي الذي يتمسك بالتأصيل ولكنه ينظم وعيه في إطار مقاصدي.

وقد تختلف مساحة تقدير المقصد الشرعي هنا، وتختلف مساحة الاجتهاد، ولا يوجد مسطرة يُحاكم بها الناس فضلاً عن أن توحدهم في الرؤى، فاختلافهم أمرٌ طبيعي، وهو من سعة نص الشريعة ومساحة التنظيم الشرعي والقانوني فيها، لكن ذلك أيضاً لا يُطلق في فضاءٍ لا حد له، وهو الخلل الذي غرق فيه العقل العلماني السلفي، ونقصد بهذا الأمر أن تُنصّب نتيجة الفكرة اللبرالية أو اليسارية الماركسية، أو النظريات الحداثية (المادوية) في الإنسان، وفي عوالم الأرض، ثم تؤخذ أصول الشريعة في وحييها وتُعسف، لملائمة هذه التيارات، فهذا القهر المعرفي تقليدٌ أعمى.

نعم هناك مساحات من الوعي وأصول الاستنباط والتشريع الإسلامي، عجز عنها العقل السلفي الديني، وهو ليس مرتبط بالضرورة بالتيارات السلفية الملحقة بمدرسة أهل الحديث قديماً، أو بفكر الإمام ابن تيمية أو بتطورات الحالة السلفية، التي يطول شرحها، وإنما هي تنسحب أيضاً على نزعات في مدارس التراث، ومنها المذهبية التي تنتمي لمدرسة علم الكلام والمذاهب الفقهية، ولكنها تتمسك برفض مساحة الاجتهاد الفكري والتشريعي.

رغم أن رؤى الفكر الإسلامي القديم والجديد، ينطلق دوماً من تاريخ التشريع الإسلامي، ثم يدخل إلى مدرات التفكّر والتفقه لوعي الشريعة، بآفاق رأي وآلات جدل لم يُدركها ذلك الزمن القديم، ورغم أن تثبيت أصلَي التشريع والإيمان بكليات الرسالة لا يتغير، إلا أن الحدب والقلق في بعض التيارات التقليدية، يظل في حالة توتر من الاجتهاد الإسلامي، الذي يعتني بتحرير الوعي الديني المطلوب لروح الفكرة الإسلامية في كل زمن.

فهنا قد تجد مساحة تشدد أكبر عند المقلد المذهبي من السلفي، وقد تجد العكس بحسب حالة ذلك الشيخ أو طالب العلم، ومن العجيب اليوم ورغم التحديات الفكرية الصعبة، التي يترتب عليها ولا يزال خروج مجموعات من الشباب عن الإسلام، او اضطرابهم الشديد، فإن صراعات الجماعات المذهبية في الدائرة السُنيّة ذاتها، يُستدعى بقوة ويَصطّفُ فيهِ فئام من الناس، وهي أزمة عميقة تصادم قطعيات القرآن في الوحدة ونصوص السلف التي يُغفل عنها في احتواء الرأي وفي قبول النقد، فتقف على لغة إيجابية مختلفة خارج معارك الثأر الشخصي بين العلماء، وبعيداً عن توظيف قوة السلطان لصراع العلماء خدمةً لجبروته.

هنا يبرز لنا اليوم حالة سلفية تُقدس آباء الفكرة في الصف العلماني العربي، وفي الحقيقة أنّ هذا الصف أو الجموع أو الحشود، تحتاج إلى انتفاضة عقلية وأخلاقية، فالحالة العلمانية السلفية اليوم، تغوص في جهل مكابر، تعتمد بالضرورة على أدبيات التطور والتقدم والحضارة، وليس في إرث هذه العصبيات العلمانية لا تقدم ولا حضارة ولا مركز أخلاقي لشعوبها، أو لأوطانها، إننا اليوم نشهد مأسسة عميقة تدعم الاستبداد والخرافة معاً، ويظهر ذلك في دعم العقل العلماني السلفي، لنموذج القوة الطائفية لفكر إيران ونظامها الحليف في دمشق، فأين هي حالة التنوير والوعي الذي ينتج النهضة، ويُرصّف للمعرفة وللمواطنة الحرة في هذا الغطاء العلماني الطائفي الغليظ.

إن سياقات التبرير للسلفية العلمانية اليوم في الهجوم على الفكرة الإسلامية، تجتر مذاهب قد بُشّر بها لقرون وعقود واختبرت في تجارب سياسية أهلكت عدداً من الدول العربية، كما أن ما تحتج به في خليط أنظمة ثيوقراطية سنية، في التخلص من إرث الدين، هو في الحقيقة توظيف جديد لفكرة التخلف الديني، المبتور كلياً عن مفاهيم الإسلام، والذي يُحاكي الغرب سلوكياً تقليداً له لحماية نظامه، ولم يقدم أي صناعة تاريخ لأجل شعبه، وقد كان من الممكن أن تتحصل له، لو خضع لفكر الإسلام الروحي والحقوقي.

وتعود اليوم دورات التشويه والمباهاة الديكورية في هذا العقل، ورمي المسرح بمصطلحات الحرية والتمدن، دون أن يتجرأ هذا العقل أو القلم أو الناشط الثقافي أو الإعلامي، من تحرير مأساة العالم وإلى أين تقاد البشرية لمهالك كبرى، لم ينقذ فيها الإنسان، والحروب تلتف عليه بفضائح ازدواجيتها، وجنونها النووي، في عقر المركز العلماني وميراثه الماركسي واللبرالي، ثم تُدعى الشعوب العربية إلى قعر التقليد من جديد.

من الذي يملك الدليل بأن عقل الشرق البصير وقيمه المرتبطة بالضرورة بالرسالة الإسلامية، حين تنظم مفاهيم الحرية والدسترة والحقوق الوطنية، بما فيها الأقليات والمختلفين مع الفكرة، يقود لفشل مقطوع به؟ ولماذا مع كل هذه التجارب وانحدار العالم لا يُفتح الباب للتأمل الاجتهادي، الذي يحتاجه العقل العلماني العربي المخلص في البحث والتحرير، من قال أن المعرفة الإسلامية مقيّدة بتجارب الحركيين الإسلاميين، وهل كان بأس تجاربهم المحدودة أسوء من كوارث المستبد العلماني والمصفقين له!

في بداية الحصار الذي أحاط بالربيع العربي، صدر لي كتاب بعنوان التيارات العربية والقضية الديمقراطية، كان مما طرحتُه حينها هو إشكالية تحول العلمانية العربية، إلى حالة الطائفة المتقوقعة على ذاتها، وأن المطلوب اليوم حتى لو بقي الصراع مع الإسلاميين، أن تنطلق رواحل العقل العلماني الرشيد، لفهم معادلة الحياة والإنسان في الإسلام، من منظور مستقل بلسانهم العربي، وليس بتقليد ما سلف من تابوهات مغلقة، تطوقهم بعبودية فكر للغرب الماركسي واللبرالي.