العقل المعرفي.. الفارق الفلسفي الإسلامي

مهنا الحبيل

في رحلة الجدل الفلسفي المعاصر، تختط قواعد المقارنة منهجاً تحديثياً، لمواضع النزاع، وهو نزاع يوجب بالضرورة قياس مساحة الحق في الاستنتاج وفي المآل النفعي الأخلاقي للبشرية، في رحلة الأرض وسؤال الكون والوجود، ودون اعتماد هذه القاعدة يتيه الحوار المعرفي، وتسقط الفريضة العليا للبشرية في سؤال البحث الكبير.

 ما هو الوجود وأين مهمتنا في هذا الوجود، وأين الخيرية العليا فيه؟

 وهذا ما يثير سؤالاً كبيراً في جدل المعرفة، ما هي القيمة التي يمكن للعالَم أن يصل إليها، حين تُكرِّر دور النشر طباعة الترجمات لكتب الفلسفة، التي تَصدُر من مذهب التجريب المطلق، حتى الذي يحمل بعض المراجعات الأخلاقية، أو النفور من المادية الصلبة، إذا كان العقل التجريبي، أو التبرير المادي للنشوء هي قاعدة الانطلاق له.

       وأذكّر هنا بأن هذا السياق يُطرح ضمن المراجعات النقضية، لمآلات العالم تحت نظريات العقل التجريبي، والمهمة الاستثنائية، التي برزت على طاولة الفلسفة الأخلاقية مؤخراً، تشير الى المعادلة المجهولة أو المُهمّشة في الشرق المسلم، وعليه فإن استدعاء الجدل المعرفي، للوصول إلى الحقيقة الفلسفية الجديدة، ودلالات شهودها وصحتها، لن يعبر في هذا الهامش المغلق، المُغرق في عالم التقليد واستنساخ الفلسفة الغربية (المقدسة).

 فهل هذا يعني رفض مناهج الجدل والاستدراكات التي تلد في عالم الفلسفة الغربي، أو في ارتداداته في الشرق أو في الجنوب العالمي؟

كلا ..

لكن الإشكال هنا هو في اعتبار التقليد أو التقليد المُعدّل، في هامش الفلسفة الغربية جزءٌ من حوار المعرفة الجذري.

 ولذلك نعبر اليوم إلى أهم أصل، للرؤية الكونية في الإسلام وهو العقل المعرفي، ورغم أنني انتخبت هذا المصطلح، وكرسته كفارق جوهري بين الرؤية المادية للكون في الفلسفة الغربية المعاصرة، والرؤية الكونية للفلسفة الإسلامية، إلا أنه معنىً متقدم يدور في جدل الفلاسفة المسلمين، دون أن يُحدّد المحور الدلالي فيه، فلا أحد في تاريخ المسلمين الفلسفي، يُنكر حقيقة العقل الأدائي والاستدلال به، غير أنهم يرونه ليس الوحيد، لاستيعاب المعرفة والإدراك للحواس، وما وراء الحواس من يقين الوجوديات.

وكان من المهم تبيان معنى (العقل) الملهم، الذي جاء أحياناً في جدل المتكلمين، وفي مناظرات الفلاسفة، باسم الفؤاد أو في سياق الإرشاد اللدُنّي، أي الموجّه من الله، وهل هو سياق غيبي مطلق، يختار به الله من يشاء، دون أن يكون للعبد قدرة على الاستدلال، أم مدار فطري (طبائعي) يولد مع الإنسان، وهذا الإنسان عند الوجود الأول، لم تقم دلالة البحث فيه، على تحريك العقل التجريبي والحواس فقط، بل التأملات النابعة من ذاته، وعلى ذالك بنى فلاسفة اليونان الأوائل تساؤلاتهم في الوجود، وفي صناعة أرضية لحياة المجتمعات.

إن العقل المُلهَم هنا، لا يُقصَد به هداية الثبات، وإنما هداية الوصول، أي أن العقل المعرفي يُبحر في مساحة أكبر من العقل التجريبي، فيُهدى لما عجز عنه العقل التجريبي، إذ أن المعرفة أقدر على إدراك حقائق الوجود، وفرز المادة المستشعرة بالملامسة أو الحواس، عن الكائن الحاضر في عالمها، دون أن يسعه العقل التجريبي، وأول ما يُستدل به في هذا المقام هو الروح.

 فالروح عالم ضخم واسع ممتد، يعجز العقل التجريبي عن إدراكه، ولذلك نزل به التحدي القرآني، لا لإغلاق المعرفة عن إدراك البشر، ولكن لتحفيزهم من خلال التبصر والتفكر، وانظر هنا الى دلالات تحفيز القرآن في النظر الى المحسوس وغير المحسوس، لإدراك ما يسع الإنسان وعيه، من عالم الوجود الذي خُلق فيه، فالقرآن حمل العقل على هذا التدبر بقوة وبكثافة فما هو هذا العقل؟

هذا العقل المعرفي، هو الذي يجمع بين ما يقف عليه التفكر والتدبر، فيؤمن بيقينه دون قيود التجربة مع الحواس، وعليه فإن إدراك الروح التي تنبض في حياتنا، وسكون الأجساد، ثم تحللها الى مادة تختلط بطين الأرض، يعني أن هذه الروح أصل في وجود الذات، فكيف تُنكر، بزعم أن العقل التجريبي لا يتلمسها!

إن كل هذا الأرشيف الضخم، من قواعد علم النفس للفلسفة المعاصرة، ثم ما بُني عليها من علوم وآداب وقراءات متعددة للنفس، تهوي إلى الأرض وتسقط من مكتبة التاريخ والعلوم، حين تقول أنها اُدركت بالعقل التجريبي، كيف يفسر هذا العقل التجريبي، عالم النفس الضخم، وهو ينكر أصل اليقين فيه؟

إذن هناك فرز مهم لازم هنا، عن مصطلح الإلهام بالإيمان، والثبات بعد الرشد، عن العقل المتدبر فيما حوله، والمدرك لليقين المحيط به، من الروح أولاً ثم مما بعد عالم الفلك الواسع، وأجرام السموات والأرض، التي وصل الإنسان لطرف بسيط جداً من وعي عالمها، ولا يزال بعيداً منقطعاً عن نهاية العلم فيها.