مهنا الحبيل

30/1/2024

 

الحكمة هو المصطلح الذي أعتمده بعض علماء المسلمين لتسمية الفلسفة، وأحسب أن هناك أزمة كبرى لا نزال نعانيها في الشرق المسلم، منذ معركة التهافت الكبرى، التي غطّت على مساحة كبيرة من مفهوم وتعاطي الفلسفة لصالح الخيرية المرتجاة، من تحريك عقل البحث والتأمل تحت سقف الوحي، لفهم طبيعة الخلق وتاريخه.

 وما يطرأ عليه في سنن الكون وتاريخ الشعوب، وقبل ذلك تاريخ الإنسان وجودياً ومعرفياً، ووضع ذلك أمام مقصد الاستخلاف الأعلى الذي قصدت إليه حكمة الخالق، في مفهوم إفراد العبادة دينياً، وتحسين شروط الحياة أخلاقياً، ومركزها دوماً كان في نبذ الظلم.

       كل ظلم يقع على الإنسان أياً كان هذا الإنسان، وكل حياة طيبة في بيئة صالحة، لصالح الخلق وما فُطر لأجلهم من حيوان أو زرع أو جماد، وكل ما يقتضي قوله تعالى (فلنحيينه حياة طيبة)، فأصل الحكمة في الخلق كرامة ابن آدم وحياته الطيبة في الدنيا، وتأتي الرسالات لتفسير مالا تقود له فطرته، وأولها سر الخلق وعبادة الخالق، فهي عبادة في ذاتها صلاح له.

 هذان هما أساس الفلسفة الأخلاقية الإسلامية، غير أن هذا التعبد في ذاته يشمل تشريعات تخص الحياة الدنيا والإحسان فيها، لكل من وُجد عليها، كما يشمل طبيعة التشكل الديني والعرقي والقومي، وقصص هذه الشعوب في تاريخها وفي إساءاتها وإحسانها.

       فالفلسفة هنا مدار مركزي شامل، تقوم عليه إدارة المجتمعات والأمم، التي قامت على أصل القبيلة أو الفرد، وتشمل مراحل زمنية طويلة متباعدة وقصيرة، والقدرة على القيام بهذا الاستخلاف، لم ولن يقوم بها، إلا من أحسن فهم نص الوحي وشريعة الله في الكون، ولذلك كان المسلمون يتصدرون فيما يتقدمون به، من اجتهادات لصالح علوم الآلة في العمران، لكون المركز الأخلاقي حاضرٌ لديهم لعلو مقصدهم، وصحة أدواتهم.

       ثم حلت الكارثة في عالم المسلمين، حين انقطعت قوة علوم الآلة العمرانية، التي تُفهم بها أحوال المجتمعات والشعوب، وتُفعّل قوانين العدالة، والمشاركة لتحقيق التعارف بين أمم الأرض، وتمكين القوة الرشيدة لضبط القانون الإنساني العام، تحت تعاليم الوحي، فضعف الطلب في علوم الاجتماع رغم تقدم فرص المسلمين، قبل أن تسمى علوم إنسانية واجتماعية.

 ونُقضت العدالة في شرط التلقي والتعليم، حين ساد الظلم، ثم دخل الفساد السياسي على أهل العلم وأثّر فيهم، بل غير مجرى التعاطي الحر الشامل، حتى لا تصل علوم الحكمة، إلى مدارات تتنزع من الحاكم آليات ظلمه، وبالتالي تُعزز قوة الحق لشعوب الأمة لمواصلة طريق الاستخلاف.

       فانحصرت العلوم في توارث فقه الأفراد، وضعف فقه الدولة والمجتمعات، وتنظيم العلاقة بين الساسة والمسوسين، وكثر الطغيان، وحاصر المستبد القديم في تاريخ المسلمين، أصل الحرية التي مُنحت للإنسان وخاصة المفكر المسلم، فانحسرت المساحة التي ينحت فيها أهل العلم، مناهج الوصول والجسور مع بقية عالم الأرض، وباتت مصلحة الحاكم حماية تكيته وعصبيته، لا نشر مفاهيم الإسلام وكسب قلوب الناس، ودفع كل وسيطة سلام لتحقيق الغرض الأعلى، العبادة والسلم الأهلي للعالم الجديد.

 الذي بعث له النبي صلى الله عليه وسلم، في توقيت مفصلي من تاريخ العالم وزمن النبوات، فهذا الصعود المفترض، الذي يأتي في سياق تجديد مرجعية الوحي، لعبادة الخالق ولعمران الكون، لمن أسلم واهتدى، أو من ضل وكفر، وأعطاه النظام الإسلامي الإنساني، حق الحرية والمشاركة والمواطنة العالمية، مع تفعيل هذه المرجعيات في نماذج التعدد والاختلاف في أحوال العصور، وفي طبائع المجتمعات والشعوب، بموجب اختلافها.

 وليس بقهر ذواتها على نمط محدد يحمله العرب لقهر الإنسان الآخر، ولذلك سادت الفكرة المسلمة دون عمليات إبادة، وتعددت الشعوب المؤمنة برسالتها، دون حروب إبادة متبادلة كالتي شنها العالم الغربي القديم والجديد.

       لكن هذا الخط التكليفي القرآني، لم يواصل رحلته في بلاد المسلمين، في عهود السلاطين المتعددة، وانفصل مفهوم الخليفة الراشد، من بعد نموذج عمر ابن عبد العزيز، وكان قد بدأ البغي وعسف الناس وقهرهم قبله، فتأثرت حركة العلماء، ولكن بقيت تقاوم تدخل الحاكم، لكنها ضعفت رويداً رويداً، حتى وصلت إلى زمن اجتياح بغداد وكارثة زحف التتر في ذروة توحشهم.

 ورغم أن العنف السلوكي والردة الحضارية، كانت تتطابق في عهود الزحف المسيحي والصراع الوثني القديم في العالم الغربي، تماماً كما كان ذلك في التتر، لكنها تغيرت بعد الفكرة الدينية الجديدة، في ذات القومية التترية بعد تمكن الإسلام فيهم.

       وهنا نفهم حالة الضعف في حاضر العالم الإسلامي القديم، الذي هيمن عليه الظلم والتوظيف العقائدي، لصالح المستبدين، ولم تواصل رسالة العلماء نهضتها الذاتية، بناء على الأصول المتقدمة في فهم فلسفة الإسلام الكبرى، وهنا نفهم المآل الذي ورثته حقبة الغزالي، وهي القرن الخامس الهجري وانتشار علمه مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، ثم القرن الذي بعده الذي برز فيه الامام ابن رشد.

       حيث غرق هذا العالم المسلم في جدل اللاهوت (في ذات الله)، وهو العقل الذي كان يملك قوة معرفية دلالية عميقة من أصل الوحي، ومن تحريرات الفكر اليقيني فيه، من حيث عجز العقل التجريبي عن إدراك ذات الخالق، كاستحالة عقلية فهمية مجردة.

 وانطلق في سفسطات لا تنتهي تعوّذ منها كلا الغزالي وأبن رشد، تجمع بين مسائل الباطنية وميراث الفلسفة اليونانية والإغريقية، وهو ما يمكن وعيه بصعوبة للباحث، في حين يغرق فيه القارئ المبتدئ، غير أن هذه الخلاصة ظاهرة، وسؤلها يقفز أين المصلحة المعرفية في ثورة هذا الجدل، وما هو تراتبيته في العقل المعرفي الإسلامي، هذا العقل المغيب اليوم في زمن الفلسفة الأخير، هو الفريضة المعطلة في مهمة الحكمة الإسلامية، ولا يزال غيابه يمثل سبباً قوياً للتيه العالمي في توحش الحداثة.