العقل بين التصوف السلبي والمنظور الكوني
مهنا الحبيل
في رحلة التتبع المؤسسة للرؤية الكونية الفارقة في الإسلام، والمُنقذة للذات الإنسانية، وعالم البيئة والطبيعة، ثم أثر هذه النفس الأخلاقية وتأملاتها العقلية في تاريخ الأرض وسلامتها، تركز بعض التوجهات الفلسفية الأخلاقية الإسلامية، على محور الأخلاق والسلوك الفردي المرتبط به، ويُبَالغ في هذا الأمر من خلال نزعة التصوّف التي تسيطر على هذا الطرح، والتصوف المقصود لا حرج عليه في نافذة أن الاستخلاف والعبادة، تقوم على الضمير الروحي والنفس اللوامة، المراعية لأحكام ربها في ذاتها ومع بقية الخلق، لكن يقفز هنا سؤال مهم وهو:هل علاقة المسلم بالكون تقوم على سلوك روحي منفصل أم منظور كوني متصل.
إن القصد من هذا السؤال هو استدراك حالة التعطيل أو التجميد أو التحييد، للتدبر العقلي الذي يحتاجه العقل المسلم، وتنص عليه آيات الكتاب العزيز فيما يصلح شأن الأرض والبشر، هذا التدبر بذاته يُنظّم فلسفة علم الاجتماع ويحرك بحثها في وسائط النهوض والتطور الإيجابي لما يحقق عمراناً رشيداً،
يقول تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
تأمل هنا في المساحة الواسعة للمشهد الكوني الذي ندب الله لها العقل المسلّم، بل الإنسانية كلها للتدبر فيه، لاحظ هنا الجمع بين التدبر الإيماني لحكمة الوجود ولمقصد الخلق، ثم انتبه الى قوله عز وجل (بما ينفع الناس)
أنظر هنا الى النفعية الأخلاقية في القرآن، المطلقة لصالح البشر، المحكومة بمساري العدل الإلهي والفطرة، المُنظّمة لعلاقة الإنسان مع أطراف الكون.إنه ندبٌ مؤكدٌ للبحث عما ينفع الناس في عمران الأرض، فهل هذا العلم المركزي الواسع المتصل بالعلوم البحتة والتطبيقية المتدفق مع فلسفة علم الاجتماع، بالنظر الى أن سلوك الأمم ومراحل صعودهم وهبوطهم، وتفوّقهم وانحطاطهم هو معادل التدبر الثاني في القرآن، لتحقيق شرطية الاستخلاف الرشيد، فهل هذه الرحلة التي أعلنها القرآن كمهمة لبني الإنسان تقوم على الاكتفاء بتزكية النفس، والتبتل الفردي الى الله، أم أنها مع واجب التربية الروحية، لديها واجب حرثٍ مهم للعبور الى رحلة العمران في هذا الكون.
إن تاريخ العالم الإسلامي يعاني من فواجع كبرى أذهبت الحرث والنسل في يعض أممه، وعطّلت المصالح، وتحقيق المصلحة ودفع الضرر متعلق بالمدافعة مع البشر تحالفاً أو تضاداً، وجزءٌ منها في الأخذ على يد الظالم كما جاء في احاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل على إقامة القسط بين الناس، كما في كليات القرآن العظيم يقول تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَۚ) وقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ).
لاحظ هنا تفعيل قاعدة القسط، والعمل على تحقيقها كمهمة كلية مركزية بين الناس، ثم حين نعودُ الى تاريخ المسلمين، نجد ردة كبرى عن هذا المفهوم والذي ساد قروناً طويلة، إن الإشكال هنا هو مساهمة بعض رؤى التصوف بل وفلسفتها، في خلق قاعدة راسخة، تدفع الناس بالتعبد بالانقطاع عن عبادة الله، بالقسط بين الناس وعمران الأرض بالعدل، بل وتنمية الكوكب بما يصلحه، وهذه المنظومة من الأفكار تحولت الى عقائد وسلوكيات فردية تُحفّز الناس على الانقطاع الى زوايا المجتمعات، والتخلي عن واجباتها، بل ووأد أصل التفكير بها، ولقد ساهم الجانب السلبي من مناهج التصوف وطرقها في ترسيخ هذه المفاهيم المنحرفة، وكان أحد أدوات الانحطاط في تاريخ المسلمين.
ونحن هنا إذ نعرض لهذه الرؤية النقدية لأهميتها البالغة، في تحرير رؤية الإسلام الكونية، وفي تجسيد الجامع بين مهمة العقل المعرفي والنفس الأخلاقية، لسنا ندين التصوف كعلم ولا نحاسبه، بل إننا نرى ضرورة حضوره في تزكية الفرد المسلم، وفي نماء العالم أخلاقياً، لكن هذا الجانب المروّع في تاريخ المسلمين، وانتشار التواكل بينهم، وتلاعب الأمم فيهم، مثّل فيه تصوف القعود والعزلة، وذم المشاركة والعمل، والتشكيك في السعي بأنهُ فتنة أو خشية على صفاء النية، دوراً خطراً في تعطيل فقه العمران وعلم الاجتماع الإسلامي، ومن خلالها أضعفت قوة المسلمين، بل وحورب العقل الإصلاحي القرآني بينهم.ولذلك نحن اليوم أمام مهمة فورية، أحسبها فريضة شرعية وضرورة عقلية لعلاج داء التواكل والعزلة الذي مكّن للانحطاط.
لعل لنا عودة له بعون الله
السياحة والنظافة والحضارة مهنا الحبيل بدت لي أزمير محطة مهمة لبدأ الرحلة التركية البرية، كان…
السياحة الفكرية في تركيا مهنا الحبيل تأخرت رحلتي السياحية بين المدن التركية عشرة أعوام، حيث…
الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر مهنا الحبيل يستشكل البعض في توسيع رؤية المقاصد…
سؤال الدولة الإسلامي والاستئناف الفكري مهنا الحبيل وقفنا في إعادة تحرير النموذج الماليزي على سؤال…
أبو بكر الصديق في عالمنا اليوم مهنا الحبيل إن العودة للحياة الإسلامية الأولى، وخاصة الصدر…
المرجع الأخلاقي للعالم الجديد مهنا الحبيل إن المقياس الذي يعكس بدقة، حقيقة الكوارث التي يعيشها…