الغربي الآخر بين سعيد ومالك بن نبي
مهنا الحبيل
ظل مالك بن نبي مصراً على أن ملحمة الاستقلال العربي الإسلامي، الممتد إنسانياً بين أفريقيا وآسيا، ينطلق من معركة التحرير الفكري بشقيّها، كفاح الكولونيالية الفرنسية عبر روح القرآن ودلالته الإيمانية، ونهضة الفكر الذاتي الخلّاق من أمراض المسلمين، والرابط الروحي والأخلاقي والثقافي الإسلامي، المنبت عن التبعية الغربية وأصول عقيدة المادة وروح الرأسمالية، والتعصب المسيحي.
الذي أضاف إليه مالك بن نبي، قصة العبور الإسرائيلي الأخير إلى الغرب، وعدّهُ مدرجة قديمة تاريخية، لاختراق الإمبراطورية الاوربية القديمة حتى الدولة الحديثة، والذي بدى فيه مالك بن نبي مبالغاً في صورة المؤامرة الألفية اليهودية، التي أسقطها عبد الوهاب المسيري في تفكيكه لعلاقة اليهود كمجتمع، في صفقة الحركة الصهيونية مع القومية العنصرية المسيحية القديمة، ثم مع الحداثة الغربية (راجع كتاب الصهيونية والحضارة الغربية).
والحكم بينهما ليس مهمة هذا المقال اليوم، غير أن الحقيقة الكبرى التي يتفق عليها الرجلان، هي أن ميلاد الكيان الوظيفي للصهيونية، هو جزء من عملية الإخضاع الكبرى للشرق المسلم.
اندفع مالك بن نبي في منظومة التفنيد، بسب التحالف الذي مثلته فرنسا المستعمِرةُ للجزائر، مع الكيان الإسرائيلي، وما تحدث عنه بن نبي في مذكراته، عن أن الكفاح الجزائري قد وجد نفسه في مواجهة المشروع الإسرائيلي، ضمن حقيبة المستعمر المباشر عليه، الذي أشعل حرباً أمنية على الجزائريين باسم الدفاع عن السامية اليهودية، مستغلاً لتموضع سياسي للحلفاء، في حرب العالم الغربي الأخيرة مع ذاته المنشقة، في النازية الألمانية.
وخلافاً لما قد يفهم البعض، بأن مالك بن نبي يحمل قطيعة حضارية أو حتى سلوكية، مع المختلف الآخر، تقوم على منابذة للذات البشرية الغربية، فإن حياة مالك بن نبي وحتى خطابه، لم يكن مطلقا مؤمناً بهذا البعد، فتاريخه الاجتماعي مع زوجته الفرنسية العظيمة، التي تحملت الصعاب والجوع والفقر ليبقى مالك بن نبي صامداً، أمام حصار الفرنسيين، وبعض مواطنيه الجزائريين، ودور أمها أيضا في اسناده، مما أفاض فيه في مذكراته بامتنان.
ويدخل في ذلك لقاءاته المستمرة ومشاركته مع جمعية الشباب المسيحيين، والتي تحتاج إلى إفراد دراسة عنها، حين تصل الى أرشيف المناقشات الفكرية التي عاشها مالك بن نبي، في هذا النادي الذي لجأ له، فهي تؤكد هذا البعد عند مالك بن نبي، وأنهُ لم يكن يؤمن بمفاصلة عقدية مع الشريك الإنساني، ولا حتى مع أفكاره في المشترك النهضوي، التي شرّع فيها الإسلام الحكمة والتعايش، لا الحرب والبغضاء.
وكما كان حديث سعيد عن نيويورك ورفاقه، فإن روح مالك بن نبي الصلبة في مواجهة الفرنكوفونية المتوحشة، لم تكن نفساً بشعةً مختنقة تنظر للديمغرافية الأخرى بعين الحقد والانتقام من أفرادها، ولكنه كان يركز معركته على الهجوم الثقافي الذي كان يداً بيد، مع من يقتنص أبناء الشعب الجزائري ويذبحهم بسلاحه، ويسعى بكل قوته لهدم اسلامهم وخاصة عبر نقض البناء القرآني.
وفي معركة مالك بن نبي الأخرى، جاءت الطعنات أيضاً في ظهره من داخل الشرق ذاته، من بعض روابطه وشخصياته العلمية، ولكن بن نبي تمسك بقوة بما تعنيه مفاهيم التوارث الحضاري، وأن نبذ قراءات التقدم والإنجاز في تاريخ الأمم، هو مشارطة متعسفة، تُحرم عبرها القوة الإسلامية المعرفية الجديدة، من البناء على ما اتصلت به الحكمة التي يبحث عنها المسلم في كل مكان.
لذلك نادى بكل قوة، بإسقاط أسوار العزل الحديدية بين الحضارات، ورأى ذالك مناقضا لفكر النهضة الإسلامية الجديد، الذي يستعد للحظة انبعاثه، وفي سبيله قدّم مالك بن نبي زهرة عمره وكل قدراته.
وحتى مرحلة العلاقات الأولى لمالك بن نبي مع خصمه التاريخي، الذي أعلنه مالك بن نبي بأنهُ قائد مشروع حصاره الشخصي، وهو مستشرق باريس الكبير وفيلسوف الاستشراق، لويس ماسينيون، فقد كان مالك بن نبي حين أول تعارفه معه، يرجو ان يكون لديه انفتاح حضاري منصف مع الإسلام، وأنه يسعى الى المشترك الإنساني، وأنه ملهم بالفعل بالشرق الإسلامي كركيزة فكر آخر، وليس كشرق تراثي متخيل، ومحتبس في آنية أو قطعة تراثية أو وجبة رقص، أو حتى ترانيم روح صوفية عزفها الحلّاج، وهذه بالضبط قضية محاكمة ادوارد سعيد الرئيسية لماسينيون.
وفي نفس النقطة والتقدير الذي حسم فيه ادوارد سعيد هوية ماسينيون، انطلق مالك بن نبي عبرها، ففكك مهمة المكتب الثاني، الذي يرمز في مذكرات مالك بن نبي، الى مشروع الترصيف الاستشراقي العدائي للإسلام، والذي كان أحد أهم ألوية الاستعمار الفرنسي للجزائر وغيرها.
مما يجعلنا نقول أن هناك مشتركاً مهماً بين ادوارد سعيد ومالك بن نبي، في منظومة نقض الاستشراق، لكن التعتيم والحرب التي شُنت على مالك بن نبي من النيران الصديقة (للمرجعيات الإسلامية والوطنية)، ومن المكتب الثاني، لم يجد فيها مهندس النهضة الجزائري، الفرصة التي تحصل عليها سعيد، في معقل الرواق الأكاديمي الأمريكي، والذي رغم محاصرة سعيد ومتابعته من قبل المؤسسة السياسية والأمنية الامريكية، إلا أنهُ وجد مساحة جيدة في اسرة الاكاديمية الغربية والرفاق اليساريين.
فضلا عن احتفالية الشرق المسلم به بعد كتابه الاستشراق، وقد ابقى سعيد روحه الإنسانية المنفتحة مع الغرب الآخر، غير أن سعيد هنا نشأ في ظل علمانية اجتماعية ولبرالية الحياة الغربية، وانسجم معها، فيما كان مالك بن نبي يكافح في سبيل بلاغ كلمته، ولا يجد من يفتح له الباب للجسور الإنسانية مع الإنسان الغربي، كذات وكمعرفة جدلية، تحترم اختلاف مالك بن نبي معها ومع نهضته الإسلامية، بدلاً من تصفيته سياسياً وفكرياً.