مهنا الحبيل
21/1/2024
اختار روسو صدمة عاطفية قوية، في نهاية قصة حب شيقة لإبنه الافتراضي إميل، حيث قرر فجأة أن يغادر إميل خطيبته وعشيقته صوفي، في سبيل الواجب، هذا الواجب الذي أشار له إميل بمبادئه الأخلاقية، كان يَقصد به روسو روح النضال الثوري والتضحية بالعواطف، ولكنه ظل يرتب المراحل في قرار البلاغ المروع لصوفي، ويضع له تبريراته المتعددة لكل مرحلة ومشاعر.
وبعد أن أنهى مهمته التأسيسية أعاد صوفي لإميل، وكان تبريره بأن قسوة اللحظة تُنضج العلاقة، وأن زواج إميل بصوفي في لحظة التوله الرومانسي، هي مقدمة للفشل، لعدم اختبار صوفي في مصداقيتها، فمن أين لروسو هذا القطع بالحكم؟
وكل حجته أن إميل بلغ تعلقه بصوفي ولذته بأنس حياته معها أقصاه، ولماذا يؤخرُ روسو بيت الزوجية للمحبين العاشقين، وهو الركن الطبيعي لهم، والبيت الفطري الذي ظل روسو يؤكده، وينظمه في إيمان الأسرة، بحضور الدين الفطري، لا الدين الطبيعي الذي اقترحه، فالإيمان بالكائن الأعظم (الله)، كان يراوح في فلسفة روسو منذ بصمات كاهن سافوا.
ثم طرح روسو أن الثمانية عشر هي سن الطفولة، وأنها لن تكفي لتؤهل صوفي لتربية الأطفال، وان إميل في الثانية والعشرين من عمره، في سنوات الحب لا الزواج، إن الحقيقة أن هذه المقاييس العمرية التي افترضها روسو لا صحة لها، فهذه الأعمار تَزوَّج بها فئام كبرى من قارات العالم، ونضج زواجهما وحبهما معاً، وتزوج آخرين بعد الخامسة والعشرين، بل والثلاثين، ومنهم من انفصل.
فلا يمكن بناء قاعدة ثابتة على تقريرات روسو، ولا حتى الشروط الانتقالية من الطفولة، الى الرشد والبلوغ في النظام الدستوري الغربي، فالبيئة تلعب دوراً كبيراً، أما القدرة فهي تقارب بين البلوغ والنضج الذي بعده لتحقيق الأهلية.
لقد كان روسو يريد تبريراً مقنعاً في القصة، لنقل إميل إلى التحدي العقلي النضالي، مقابل العاطفي، حتى يضمن قوة الالتزام بمبادئه الثورية، حين تأتي ساعة باريس، التي لم يكن يعرف هو شخصياً، متى ستدق ومتى ستشتعل الثورة، ولذلك عاد وجمع صوفي بإميل وأعلن نجاح قصة زواجهما، بعد أن أنهى رحلة السفر الافتراضية، وهي جولة أسفار لم يُفصّل فيها روسو، بقدر ما أكد على أزمة العقل الباريسي والثقافة الفرنسية، لجهلها في معرفة أخلاق الشعوب، وسخر من كون أن باريس، من أكثر البلاد طباعة ونشراً لكتب الرحلات والسفر، ومع ذلك هي الأكثر جهلاً بحقيقة هذه الجغرافيا وأهلها.
لقد كان روسو يُحضّر أيضاً لفتح آفاق الجغرافيا، لاستيعاب تجارب العالم والشعوب، في تأسيس جمهوريته الأولى، فهل أصاب الهدف في الجيل المنشود؟
هنا مفصل مهم يقف فيه العقل الإسلامي الفلسفي، في مناقشة إرث روسو، إرث حيوي جداً ومسرح حياة لميلاد رؤيته، تقاذفتها أمواج الإحباط والإبداع معاً، ولا بد هنا لفهم فلسفة روسو وفرزها ونقدها، من فهم ثورة المشاعر الأخيرة التي انفجرت في نفسه، بعد خلاصات حياته وما سطره من كتل مواقف كبيرة حاربت فكره، واستُخدم فيها الجمهور، ثم حقيبة اتهاماته الجماعية، لطبقة النخبة، وخضوعها لسلطات المركز السياسي في باريس، وهذه لوحدها مادة رئيسية في فهم حياة روسو.
لكن الشاهد هنا هو أن تأثير خطيئته في حق أبنائه، ظل حاضراً معه إلى آخر حياته، وكان يستدعيها في قصص الحملة عليه، وتذكيره بها، بأنه قذف بأبنائه فور ولادتهم، إلى دور الرعاية، فعصر قلب تيريز مراراً، وعادت هذه المحنة لتكون سجناً خلفياً له في حياته، وهنا نقطة غاية في الحساسية، لنقد فلسفة روسو في حربه على الأبوة.
وهو أنهُ كان ينتقم من نفسه ليُكفّر عن خطيئته، بتشريع خارج الفطرة التي آمن بها، ولم تكتمل رؤيته عنها، وبالفكرة الإيمانية لكاهن سافوا، فنقض هاتين الأساسيتين في حياته، لكي ينتقم من روسو القديم، ولكن ذلك كان على حساب مفهوم الأبوة، واسقاط روحها في حياة الأسرة والطفولة، ثم اعتبارها بأنها حصن مؤقت لرعاية الطفولة، ولا قيمة لها ولا حقوق فيما بعدها.
هنا نفهم البناء الخطر الذي أسس له روسو، في سجنه النفسي، ثم حرره كفلسفة خاطئة، بنيت عليها الحداثة الأخيرة التي لا يؤمن بها روسو ذاته، ويتناقض معها في كثير من تحريراته الفكرية، عن المرأة والحب والأسرة الزوجية، هذه الأسرة كانت هي المعقل الأول لصناعة فرسان روسو، لأجل الثورة المنشودة، حيث اعتبر الحب، والحب العذري جزءً من نبل الفارس العاشق، ومقدمة لاقتحامه أسوار الظلم، وعالم الرأسمالية الطبقية، وكنيستها المخادعة، فأين فلسفة روسو الأخلاقية اليوم في ثقافة باريس وشقيقاتها؟