الفقه الديني الجاهلي والتحرير الإسلامي
مهنا الحبيل
14/5/2019
أمامي نص لأحد فقهاء المذاهب، يُناقش فيه إحدى كوارث العهد العثماني، في جواز قتل السلاطين إخوانهم احتياطاً، من دون أي جرم منهم، وأن ذلك من محاسن أعمالهم، لكنه يَتعقب على غيره من الفقهاء الذين أطلقوا جواز القتل على إخوة السلاطين الأطفال، أي أن خلاف هذا الفقيه هو في مطلق جواز ذبح إخوان السلاطين، وليس في جريمة القتل.
أما النص الآخر فهو تحريرٌ لفقيه آخر، يتحدث عن كينونة المرأة مع الرجل بلغة احتقارية وضيعة، خارج المساواة الإنسانية وتكليفها التي نص عليها القرآن.
قبل الاستطراد، أُذكّر بقواعد حدّدتها سابقاً، في التعامل مع التراث، وكوني ممن عَبَر على حركة طلب العلم، وعرف مظّان البحث وركام المصادر الفقهية للمذاهب الأربعة، فأدرك تماماً أن ذلك ليس سمة عامة، في مراجع الفقه، لكن مجمل التراث يحمل، في طياته، من انحطاط الرأي وتخلف العقل، ونزعات القصور، وربما العصبية النفسية التي يُمكن للمحقق أن يستشعرها. وهو ما يكفي لتثبيت أن التراث الفقهي يضم، من الخزي والخطايا، ما يحتاج إلى قاعدةٍ، هي في ذاتها من أصول الشرع، وهي رد هذه الاجتهادات الزائفة والمتخلفة عقلاً وشرعاً.
وهو جانب حين يتحقق وعيه في الباحث، يفتح له بوابة وعي أخرى، تفرز كنوز التراث، والآراء الراشدة التي قد تتضارب في شخصية واحدة من أولئك العلماء، وكيف يصفو رأيه، وتنبل أخلاقه، ويستنير قوله، حين يستقل عن عصبيةٍ أو توظيف سياسي، أو مزاج صراعي، فيهتدي في زمن متقدّم، لمعالم عدالة وتنوير وهدي راشد، وهي هنا مهمة الفرز الدقيقة.
غير أن المعنى هنا أبلغ من ذلك الفرز، فالمسألة ليست في تقريرٍ راجح، أو مرجوحٍ من أقوال الفقهاء، بل في نزعة الجاهلية التي تولد عند ذلك الفقيه أو ذلك الواعظ، ونجدها تدور بين حلقتي التخلف بسبب البيئة، أو التوظيف السياسي للمستبدّين منذ العهد الأموي. وهنا نلمح بوضوح أن التخلف (والانحطاط) ينزل إلى مستوى الفقه الديني الجاهلي، فهو يُصادم الكرامة الإنسانية التي نص عليها الشرع، ويستدعي العقل الجاهلي في منظور التصنيف والمواجهة السياسية. وهي ليست حالة خاصة بذلك العهد، فمسألة التلاعب بالفقهاء، وتسخيرهم، كآلة تحريض سياسي، لا تقف عند ما بين المسلمين وغيرهم، بل إنها في الصراع الديني نفسه بين طوائف المسلمين، وفي نماذج الانحطاط بين جماعات مذهبية، حمل تاريخ بغداد إرثاً مخزياً عن تصوراتها وتأصيلها لتلك النزاعات، فهو هنا ليس محطة خلافٍ في الفروع مطلقاً، وإنما جاهلية تتلبس بالدين، لتقديم الإسلام على هوى الصراع، أو هوى المستبد الآثم.
وملفات هذا الانحراف في تاريخ المسلمين موثّقة، وعلى الرغم من أن الموقف من رد كل إثم اجتهادي مزعوم واضح، إلا أن العكس هو ما يجري في كل دورةٍ زمنية، فيُحمل الناس على الدفاع على إرث الفقهاء باسم أنه شريعة، على الرغم من أن بعض المسائل أو الاجتهادات التي صدر عنها النزاع، في الأفق الفكري أو الدستوري، تقوم في الحقيقة على فهم هذا الفقيه، وعلى تحديد نص أحادي مصادم أحياناً لكليات الشريعة.
وأخيراً، ثار جدلٌ كبير على واعظ سعودي شهير، أعلن أنه يتوب من تديّنه القديم، وأنه على دين ولي أمره الجديد، وأنه، بزعمه، يعتذر عن مذهبه الذي تصدر في عهد الخصم السياسي لهذا المسؤول. والحقيقة أن هذا الواعظ المرتزق لم يَصنَع ذلك العهد، وإنما كان من موظفيه، فولي الأمر القديم هو من تبنّى تلك الصناعة، حين كانت تخدمه، واليوم يهدمها خصمه. ولست في معرض الإدانة المطلقة، لهذه النخبة أو القاعدة الشعبية، ممن انتشر بينهم فقه مدعوم بقرار سياسي، فيه مساحة من تعبّد روحي وفقه اجتهادي عبادي، وسلوك ضمن دائرة الإسلام الكبرى، والجناية اليوم بتتبع أولئك الشباب وشيوخهم بالقمع وإدانتهم، بما كان مفروضا أو مرغّباً، في العهد السابق، لكن المهم مسؤولية النقد والتقييم لنزعات التشدّد التي يشجع عليها النظام العربي الرسمي لحساباته الخاصة، لتنقية الإسلام مما يعلق به من هذه التوظيفات الجاهلية.
وهنا ندخل في مفصل فكري هو الأهم، إن حملة الهجوم على فكر المقاصد الإسلامية ومدرستها، وهي تحمل منهجاً تصحيحياً، وتختلف مساراتها، بين النهضة والأخلاق والتجديد التشريعي، وتأصيل الكرامة الإنسانية، تقوم على تُهم بالغة تصل إلى التكفير، ويسود هذا الفقه في أوساط بعض الشباب الدعوي، بحكم أن ذلك حماية لأصول الشريعة.
وبعض ردود الفعل هذه مفهومة، في ظل اندفاع مشروع صناعة دينٍ جديد، تتبنّاه أنظمة استبداد خليجية مع معسكر غربي، لا تهمه حقوق الإنسان ولا المساواة، ولا حتى السلام العالمي، بقدر ما يضمن نزع كل روح إيمانية من المجتمع، قد تُشكّل ممانعةً ديمغرافيةً أو ثقافيةً ضد مصالح المستبدين والغربيين.
الكارثة أن أولئك الشباب تدفع بهم تياراتهم إلى مواجهة فكر النهضة، بحكم دعوى تمييع الشريعة، في حين كان يروّج الدين الجاهلي بالأمس واليوم بينهم، مناقضاً لكليات الشريعة، في القرآن وما يتحد معها في السنة، وفي الفقه الرشيد، بحجة أن ذلك اجتهاد شرعي.
وفي الحقيقة، النهضة الفكرية للتنوير الإسلامي اليوم، هي ما يفضح هذا الدين الجاهلي، وتُدافع عن الإسلام قيماً وثقافةً وروحاً فكرية خلّاقة، من داخل أصوله وكليّاته، وهي تحمي معالم الإسلام، فليس كل مذهبٍ أو قولٍ أو تأصيلٍ ديني هو من الإسلام، بل كما رأينا في القديم والجديد، تُملأ الفتاوى بناء على دين المستبد، ولو كانت جاهليةً محضة، فيدافع عن الجاهلية باسم الدفاع عن الشريعة، والعقيدة الصحيحة، ويُهدم بنيان الإسلام وأصول الكرامة الإنسانية فيه، بحجة صحة الدليل الذي قام الاستدلال به عبر فقهٍ مريض أو جاهل، حقاً إنها غُربة الإسلام الكبرى.