القرآن وتاريخ الوجود والنبوات

مهنا الحبيل

عرض مالك بن نبي لهندسة خلية الذرّة الأولى، التي فسّر بها عالم الإلحاد الحديث في الغرب، الوجود البشري كصدفة مطلقة، وعبر فيزياء الجسم قدم دلالته، لاستحالة أن تُقدِم هذه النظرية تفسيراً للوجود البشري، وأن هذا الوجود لا يمكن أن تُدرك حقيقته، في جدول التحولات المادية للذرة الأولى، وأنهُ تعرض قطعاً يقينياً، لتدخل غيبي وُلدت به هذه الذرة ومكوناتها، ولا سبيل علمياً لإنكار ذالك، انظر هنا كيف تُقدم نظرية داروين عبر الضجيج العلمي المسيّس، كيقين مزعوم مطلق، وكيف يُغيّب عن العالم حقيقة النظرية العلمية لميلاد الكون وخلق الإنسان.

       أطّر مالك بن نبي نظرية التكون الذري المزعومة، للمسائلات العلمية الدقيقة، التي تجزم بالتشكيك الهندسي العلمي البحت، في هياكل البناء الفيزيائية، وفق نفس هذه العلوم البحتة، وعليه فهو هنا يؤسس نقضه دون أي ضخ عاطفي صاخب، ولا خطاب وعظي ديني، وإنما يُطلق مدرجه، الذي تحتاج أن تركّز معه بقوة في كتابه، لدقة استدلالات مالك بن نبي العلمية في مقدمات الظاهرة القرآنية.

 وعليه فإن القاعدة الفلسفية المطلقة، تحضر بقوة لصالح مالك بن نبي وهي (ما تطرق له الشك سقط به الاستدلال) وهو شكٌ قام على قواعد علمية مكثفة، تدحض أكوام الوهم، التي يعيشها إنسان الحداثة المادية في تبرير الإلحاد، وبالتالي يخلق حياة منسجمة مع روحه المادية مبررة لشهوته ومصالحه النفعية المادية.

       هنا سقط الأساس الأكبر في تفسير وجود العالم، فلا يوجد يقين في نظرية علمية مزعومة، تقول أن الذرة وكونياتها الفيزيائية، أنبتت هذا الوجود بإنسانه وحيوانه وزرعه، بل وفلك السموات والكواكب، التي كل يوم تعترف علوم المجرات وأقمارها الصناعية، بأن هذا الكون واسع عظيم، واكبر من أن يحتويه عقل الإنسان.

 لكنه يصل إلى ما يكفي من يقين في إعجازه وفي تدخل القوة الغيبية في حدوثه، هنا ستُلاحظ أن الأمم القديمة المتعاقبة حتى المعاصرة، كانت تندرج تحت مسلمة إيمانية بالقوة الغيبية، حتى من عبد الأوثان، وحتى الديانات التقليدية (الوثنية المعاصرة) كما يسميها الفلاسفة المعاصرون، ومن زمن التاريخ القديم حتى قبائل الهنود الحمر، كلهم ستجد عندهم إله اعلى توسلوا له بطقوسهم وخرافتهم ووسائطهم:(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)، هو المقصود بالكائن الأعظم الذي يعترف به يقينهم وتؤمن به مهجهم جميعاً.

       فأي النظريتين أصح، يقين الروح في الملكوت حوله، ودلالات العلم في المعجز الغيبي، أم قصة تركيب ذري خلقت نفسها ثم خلقت العالم، وركّبت كل تفاصيل الوجود، فالبصر في مكانه، والعقل بخلايا دماغه، والشرايين تسقي كل ذرة في جسمه، وأفلاك لم يزل يدور في مجموعتها الصغيرة، ولم يبلغ الإنسان آخر مجرته، وكلما وصل الى الصور والدلائل، كلما اعجزه نهاية العالم، فمن وسّعه ومن أوجده؟

       لقد أعاد مالك بن نبي سؤال الوجود، ليصل إلى الموجد ثم يطرح قصة القرآن في السؤال الكبير، هل خاطب الله هذا الكون هل اعتنى به، هل بعث له مرسلين؟

       هنا يُعبر مالك بن نبي في رحلة ذكية إلى تاريخ الأنبياء، في الزمن المشترك والمتعاقب بين المسيحية واليهودية، ليخلص إلى قصة الوحي والنبوة في الأنبياء الذين سلمت قصتهم من التحريف، وكيف أن هذا البعث الغيبي السماوي، المتفق مع يقين العقل المعرفي، ظل يتتابع من السماء بأنبياء، نُصروا بمعجزات تحتاجها عهودهم، لاستئناف الجواب الغائب عنهم، وما هو سر وجودهم، وما هو خطاب الخالق اللدُني الموجد لهم، ولماذا خلقوا؟

 هنا يذهب بك التاريخ عينه، بحقيقته وجغرافيته، لكي تُدرك أن هذا التسلسل لا يمكن أن يقع في الأرض دون أن يكون، هذا الاشتراك وهذا التنظيم في دورة الزمن، وهذه الوحدة الصلبة في عقيدة التوحيد، فيما تُفصّل الشرائع بحسب كل دورة زمنية لتاريخ هذه الأرض ولجماعته البشرية، إلا أن يكون دليلاً لنبوات السماء.

       فهنا رسلٌ بعثوا خارج نطاق قدرات الطغاة في الأرض، وخارج بأسهم كانت رسالتهم واحدة، توحيد الله في السماء وعبادته، والعدالة والأخلاق في الأرض تطبيقاً لشريعته، طوردوا من الإمبراطورية الرومانية، أو من الفراعنة أو من قوم ثمود، أو قوم صالح، أو من المنحرفين من بني إسرائيل، أو من صناديد قريش وعملاء هرقل، إذن كان خصومهم طغاة مفسدون في الأرض، وكان الأنبياء صفوة أهل الكوكب، فهنا وصل مالك بن نبي إلى قصة الحقيقة الوجودية، التي يجدها أهل الكتاب عندهم، فآمنوا بها، وجحدتها ديانات المصالح والمذاهب الأرضية الفاسدة اقتصاديا واخلاقيا.

 فمن ذكّر بهذه الحقيقة بين السماء والأرض، المستشرقون الكنسيون المستعمرون، أم نبي الله محمد والذكر الحكيم؟