القهرُ الذي خنق مالك بن نبي

مهنا الحبيل

يقدم لك مالك بن نبي سرداً متواتراً في رحلة كفاحه ومعاناته، في سبيل الحصول على وظيفة ومستقر آمن، يحقق لها ثنائية أساسية حددها في حياته، وشرح أفكاره عنها، بل وانفعالاته، في مذكراته الموسومة ب (العفن)، هذا السرد ركز على ايمان مالك بن نبي، بدور باريس المطارد له، والمتعقب لحياته الشخصية والقضاء عليه.

 ورغم أن حياته في القاهرة شهدت تطوراً كبيراً، ومشاركة على مستوى دولي من خلال تقاطع أفكاره، مع عقيدة الخلاص من الهيمنة الكولونيالية، وولادة حركة عدم الانحياز فاستفاد من شراكة مصر عبد الناصر، وحيوية المشهد الثقافي في حينه، وامتد ذلك لآسيا الهندية، حيث وجد مالك بن نبي أن القوة الاستعمارية المتوحشة، التي سحقت الجزائر وهي فرنسا، هي ضلع الهيمنة الآخر للنظام الدولي، فتاج بريطانيا، وفرنكوفونية التوحش كانا فكي الكماشة، التي عصرت الشرق، وسحقت عالم الجنوب.

       فسمح له هذا المسرح الجديد بين نهرو وعبد الناصر، بالتواجد على منصات ذات بعد إقليمي وربما دولي محدود جداً ونشر بعض أفكاره، هذا التسلسل عرضه مالك بن نبي وأكدته المصادر وما نشر عنه من أنشطة، ولكن حتى هذه المرحلة وصف فيها مالك بن نبي احباطاته، وقطع الطريق عليه، بعد تبدل المصالح، وهي مرحلة استفاد منها مالك بن نبي قبل انصرامها، وتجنب فيها التداخل مع أي كيانات إسلامية في مصر فيما يبدو، كالتواصل مع جماعة الإخوان المسلمين، رغم ثنائه على الإمام حسن البنا.

       حذراً من أي اشتباك سياسي مع الجهة الراعية له في مصر، وهي مصر عبد الناصر، كما أن غضبه من مدرسة الأزهر، بناء على المعطيات التي رآها في حياته واشتباكه مع بعض العلماء، كانت ترفض منهجية التفكير الأزهري الذي عناه مالك بن نبي، كونها تساعد في تقويض العقل الإسلامي، ومنع نهضته، وهو ما رآه في مدرسة الزيتونة أيضاً، من حيث الأفكار المؤثرة على العقل الديني في الجزائر، فضلا عن موقفه من التصوف التراثي، وكل ذلك محل نقاش خاصة في تعميماته رحمه الله.

 وهنا يأتي المسار الثاني لحياة مالك بن نبي بين مصر والشام، وهي أن مشروع اليقظة الإسلامي، الذي آمن به، ووثقه في رؤيته للنهضة المشرقية الإسلامية، وجد أيضا في هذه المرحلة مساحة للتلاقي والتعبير، أخرجته من ضيق الحصار الذي فُرض عليه، وكان مالك بن نبي يُحيله الى عجز المؤسسات الدينية، ومؤسسات الحراك الوطني الجزائري، الذي اختلف معه في عقيدة الصراع ووسائطه مع فرنسا.

 ولكن القوة الكبرى في مطاردته التي ظل يشير إليها مالك بن نبي، كانت المكتب الثاني، وهو المؤسسة (المفترضة) التي يرأسها المستشرق الفرنسي الشهير لويس ماسينيون، والتي كانت تتعقب مالك بن نبي وتحاصره دون رزقه ودون نشاطه، بين الجزائر وفرنسا، هنا سيطرح سؤالٌ على الطاولة، حول التشكيك في دقة هذا الأمر، من خلال مبالغات مالك بن نبي وانفعالاته، وإشارته في مذكراته أنه قد يكون مستهدف من الفاتيكان، أو المجمع العبري اليهودي (الدولي)، الذي أشار له دون تحديد موقعه وهيئته، فكيف نحكم على دقة هذه المشاعر.

       يجب أخذ الاعتبار هنا، بان فكر التحرر الإسلامي، تمت محاولة دمغه بعلاقة مع النازيين، لتستثمر قوى التوحش في الغرب، حملة المواجهة الدولية مع ضميرها المتصارع في الغرب، فكلا العقيدتين النازية من طرف والأنجلوسكسونية والفرنكوفونية من طرف آخر، هي إفرازات العصبية القومية المسيحية، وفلسفة التقدم الإبادي في الغرب، فاستغلت أخطاء وقعت من نماذج إسلامية كالحاج أمين الحسيني، استثمرتها النازية كمشروع تسليع لها، في العالم الإسلامي.

       أما علاقة مالك بن نبي هنا فهي تزامن خطابه التحرري، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من حرب تعقب على النازيين، بل وتسعير التوحش الاستعماري الغربي، على مناطق الجنوب المحتلة من قواته، ومن مؤسساته السياسية، والتغول في تعذيب واضطهاد سكان هذه الدول المستعمرة، وبالتالي اُخضع مالك بن نبي وزوجته، للمساءلة باسم هذا الملف في فرنسا.

 وإن كان هناك ملف أهم خصصه ماسينيون له، وهو عقل مالك بن نبي، وتنظيره للتمرد على باريس، لنهضة الجزائر وعالم المسلم المعاصر، وهذا المسار والتساؤل يتضح بجلاء من خلال الكتاب المهم الذي صدر عن (وثائق مالك بن نبي في الأرشيف الوطني الفرنسي)، للباحثين (رياض شروانة -علاوة عمارة) ولم أستطع الوصول له بعد نفاذ نسخه، ولكن قرأتُ خلاصات عن فصوله، تؤكد حالة التعقب والمطاردة لمالك بن نبي، وعليه نفهم هنا بقناعة مريحة، قصته التفصيلية في مذكراته عن المطاردة الفرنسية له.