المرجع الأخلاقي للعالم الجديد

مهنا الحبيل

إن المقياس الذي يعكس بدقة، حقيقة الكوارث التي يعيشها عالم اليوم من سفك للدماء ومن تضييق في الأرزاق، ومن فرض طبقية متوحشة بين الناس في أقطارهم وبين الدول ذاتها، سواء كانت من هيمنة عالم الشمال، أو من القوى التي صعدت مؤخراً كروسيا والصين، أو في تحديد النافع من الضار في العلوم، هو الميزان الأخلاقي، ولذلك كان هو الركن الثاني من الرؤية الكونية للعالم الجديد في الإسلام

إن الحديث الصحيح المشهور عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق) ليس نصاّ يشير إلى تميزٌ قيمي للرسالة الإسلامية فقط، وإنما هو قاعدة بيان عقدي، وأرضية للتشريع الدستوري والقانوني، أي أن هذا النص هو مبدأ راسخ تعتمده الأمم لانطلاقة فلسفتها في الحياة العامة، وفي الذات الشخصية وفي العلاقات الإنسانية، بمعنى أن لو كان لأيٍ من الأمم نصٌ لقائدها كهذا النص، لصُدّر به الدستور، وحتى لو أرادات تلك الأمم أن تُبحر في تأسيس فلسفة التشريع لوطنها الجديد، فإن مثل هذا النص المركزي الملهم، سيكون عمدة النظريات التشريعية لتلك الأمم.

إن مركزية هذا النص، تحولت إلى قواعد عامة في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحياة من رشد من قادة أمته كحكام أو علماء أو حُكماء، ولكن العبرة هنا يجب أن تكون في السياق الذي بني على هذا النص عملياً في تاريخ المسلمين، ولا يمكن أن يُحتج ببغي الساسة ولا انحطاط المجتمعات المسلمة، فمن خالف من المسلمين لا يُسقط القاعدة.

وقد ظل الوحي المنزّل من الله عزّ وجل في قرآنه، يُحيط هذا المبدأ العام في كل أحكامه، وقصص أنبياءه والأمم السالفة، ومن المهم هنا أن نُذكّر بأن إعادة تحرير الرؤية الكونية للإسلام، ونحن في مركزها الأخلاقي، يجب أن تَتَبَع نصوص الشريعة وسير اعلام النبلاء فيها، بهذا المحدد الأخلاقي، ولا يجوز أن يتم القفز العشوائي على مسار السيرة النبوية والراشدين، ومنهجية العفو والتسامح والإطلاق الذي فصلناه في كتاب فكر السيرة، واستبدالها بالفتاوى المضطربة، او السلوك السياسي أو الاجتماعي المنحرف، الذي اجتاح بعض تاريخ المسلمين أو عهودهم السياسية.

هنا نحتاج إلى استذكار احصائي وفكري الى أهم مدار أثّر ولا يزال على العالم الجديد، وهو الحروب، وإن كان المرجع الأخلاقي في الشريعة، يظلل كل علاقة وطبيعة وسلوك للنفس البشرية، غير أن الحروب منذ التاريخ القديم حتى اليوم في محرقة غزة القائمة بين اعين البشر، تعطينا دلالة يقينية على حجم الهمجية التي استُنسخت من المركز الغربي الى الدولة الصهيونية

إن جرد الأعداد الضخمة من ضحايا الحروب، بين الجغرافيا السياسية لأوروبا، في صراعاتها الدينية والسياسية، وفي مرتكز الغزو المتوحش المتعدد من البرتغال الى هولندا، الى إنجلترا وفرنسا، الى الولايات المتحدة الأمريكية، ليس مجرد صخب عاطفي، ولكنه قاعدة دلالة استنتاجية مهمة.

وفي كتابٍ مخطوط أعطاني المؤلف نسخة منه للباحث السوري الألماني، معتصم العمور*، اعتمد فيه على المصادر الغربية، ينشر العمور جدولاً مقارناً لعدد المعارك بين الشرق والغرب، يبين هذا الجدول أنه ما بين عام 1200-1500م، اندلعت أكثر من 250 حرباً، مقابل 50 في العالم الإسلامي، ومن 1701 حتى 1900 م قرابة ال 500 معركة يقابلها 100 في حاضر العالم المسلم. ولا تسل عن عدد الضحايا المليونية بالعشرات مقابل حروب العالم الإسلامي، التي تشمل صراعات الطوائف، مؤكدين هنا، أن أي نفس سقطت ظلماً او أي بيتٍ اعتدي عليه، من مستبدين مسلمين أو من خطايا القادة العسكريين، هي في الأصل مخالفة للهدي الأخلاقي المركزي. غير أن أصل التوحش وتطرفه في الغرب دلالة مركزية لهذه الدموية، لذلك ينقل العمور عن المؤرخ البريطاني بيتر فرانكوبان، سبب هذا التطرف (أن الطابع المميز لأوروبا بوصفها أكثر عدوانية وأكثر اضطراباً واقل ميلاً الى السلام من أجزاء العالم الآخر اتى اكله) في الإبادة، وأن طبيعة حروب أوروبا، جعلت هندسة السفن الحربية لديها مدججة بوسائط القتل. وينشر العمور هيكلاً توضيحياً، للفارق بين سفن أوروبا، وأكبر سفينة صينية قادها القبطان الصيني المسلم، وهو حجي محمود شمس الدين، الذي كلفه امبراطور الصين بمهمة دبلوماسية وتجارية، حققت أهدافاً جيدة للعلاقات بين الشعوب، لكنها كانت سفينة تجارية مدنية، وأضخم بكثير من سفن أوروبا الحربية التي صُمّمت للقتل والقصف الشرس، وما فعله المستكشف فاسكو دي جاما المتوفي 1496-1524 م في الحجاج المسلمين الهنود، بعد أن صادف سفينتهم في البحر، فقتلهم واطفالهم حرقاً وغرقاً، دلالة على توحش النفس الغربية المنزوعة الأخلاق، فمن هي الأمة التي أفنت العالم وقهرته بالسلاح، المسلمون أم الغربيون؟