المعركة الفكرية مع الصهيونية العربية
مهنا الحبيل
اعتمدت صفقة القرن في الأصل وكل الجهود الأمريكية التي سبقتها، على ركيزة مُهِمَةٍ سياسية، لكنها ذات أرضية فكرية تخدم المشروع الإسرائيلي، فكان التطبيع العربي الشامل مع المركزية الصهيونية، هو الهدف الاستراتيجي منذ مؤتمر مدريد الذي رعته واشنطن وخططت له، بعد حرب الخليج الثانية، وأعلنه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب 1991 بعد حرب الحلفاء على العراق، إثر القرار الأحمق في غزو الكويت.
تلك الحرب كان لها مسارين يغيب الثاني عن الكثير، فالمسار الأول هو خروج الغزو العراقي من كامل الأرض للوطن الكويتي، وعودة الحكم الشرعي التقليدي للأمارة، بعد مؤتمر جدة الشعبي، الذي اشترط خارطة طريق تُصحح بها أوضاع الكويت، مع دعمه المطلق للأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح وعودة الدولة.
أما المسار الثاني فهو أن تلك الحرب زرعت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، القواعد الجيوسياسية للتخطيط لغزو العراق، هذا التخطيط استبق عمليات التفجير الإرهابية في أيلول سبتمبر 2001، أي أنه سبق تلك العمليات في نيويورك بعشر سنوات، وهذا لا يعني موافقة نظرية المؤامرة المطلقة التي يرددها البعض.
لكن ضرب العراق وتحييده وإسقاطه، لا يلزم منه أن تُخطط واشنطن لمعادلة مجنونة كما يعتقد البعض، وتفجر معقل العاصمة الرأسمالية العالمية، كما أنهُ لا يُلغي حجم الاستثمار الإرهابي والسياسي والاقتصادي الضخم، الذي حلبت منه واشنطن، في الشرق الأوسط وغيره، عبر فواتير عمليات مانهاتن.
أما الذاكرة الأخرى فهي أن هذا العراق لا بد أن يوضع له حد، لتغيير قدراته العسكرية، التي كانت لوحة تحرير الفاو من قبضة الجيش الإيراني الأبرز، في فهم ميلاد تلك القوة العسكرية، ودورها في تأمين توازن ردع نسبي لصالح العرب، لكن دمرت العقلية الدكتاتورية لدى الرئيس الراحل صدام حسين، تلك الحصيلة بالهدية التي قدمها للمركزية الغربية، والطموح التاريخي للجمهورية الطائفية الإيرانية بغزو الكويت.
إن مراجعة عمليات الإبادة، التي نفذها الطيران الأمريكي في القوات العراقية المنسحبة، على طريق الصليبيخات الدولي، وغيرها من عمليات إبادة بعد وقف اطلاق النار وبعد بدأ عمليات الانسحاب، التي تزامنت مع فوضى في الجهاز العسكري العراقي، يظل سببه عقلية المستبد الفرد، الذي لم يستوعب طموح شعبه، وأهمية تحويل مركزيته المطلقة المصمتة، إلى اصلاح سياسي نسبي، كان يعني الكثير للعراق ولنجاة المنطقة، من الغزو ومن بعد آثار الغزو.
لكن هذه اللحظة التي برزت لواشنطن وتل ابيب معاً، والتي استفادت بقوة من البوابة الإيرانية، وإن اختلفت معها في حجم توسعها فيما بعد، فسعت لقصقصته وليس لتدميره تمديراً كليا، إذ أن واشنطن وتل أبيب لم يكن لهم الوصول إلى تثبيت نظام الأسد بعد الثورة السورية، دون الميلشيات الإيرانية وسياسة الثورة الطائفية لطهران، وحتى في العراق لو طرحنا بصورة مبسطة اليوم هذا السؤال:
هل ترغب واشنطن في عودة حكم يُشارك فيه سُنة العراق بحجمهم الحقيقي، في دولة ديمقراطية تخضع للمهنية والتعاضد الشعبي لكل اطيافه، هل تقبل بذلك واشنطن، وتل ابيب؟
الجواب الذي يقرأه المحلل السياسي بوضوح هو كلا..
إذن حتى الحفاظ على ضمان سيطرة القوة الطائفية الإيرانية، على العراق، هو بذاته هدف لتل أبيب والمعسكر الغربي، لسبب بسيط حتى لا يعود العراق الى لحمة عربية فارقة، تتغير فيها معادلة الفوضى والتشظي القائمة، فالقضية ليست عواطف ولا محبة وبغض، ولكن جيوسياسية المشرق العربي.
وإذا أعدتَ السؤال، ولكن عبر سوريا، هل من صالح تل أبيب وواشنطن، سقوط نظام الأسد خاصة لو كان هذا السقوط مبكراً، وضُمن الا يتلاعب أصدقاء الثورة السورية بميدانها العسكري، وعليه تقوم حكومة شبه ديمقراطية وشبه إصلاحية في دمشق، تجمع العرب والأكراد وتبدأ صناعة دولتها في مهنية عالية، هل ممكن أن تقبل بذلك واشنطن وتل ابيب؟
الجواب كلا بلا أدنى شك..
لقد كان الغرب الإبادي المركزي وذراعه الوظيفي الإسرائيلي، ينتظر تهيئة المسرح للبدء بالمهمة الأخيرة، وهي تطبيع الفكرة الصهيونية، بين مجتمعات العرب والمسلمين، والعرب على وجه الخصوص في الهلال الخصيب وفي الجزيرة العربية، وفي قلب ذالك مصر، وهنا نفهم عودة الخطاب الصهيوني العربي، لبث سمومه بقوة بعد عملية اغتيال قائد المقاومة الفلسطينية إسماعيل هنية رحمه الله، فهو منعطفٌ مهم حقق لهم فيه التقاطع الأمريكي الإسرائيلي، مع مشروع طهران لحظة فارقة، ليس لكون العملية مدبرة من طهران، كلا..
ولكن لكون مشروع وحدة الساحات الإيرانية، التي دُفعت فيه المقاومة وغزة، قنطرة كارثية، استباحت الإبادة الغربية الإسرائيلية فيها الناس والشعب، بما لم يحصل في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني من قبل، وحصدت فيه تل ابيب، من جسم المقاومة وقادتها المخلصين والشعب مالم تأمله يوماً، ولم يكن ذالك ليتم دون الاستفراد بغزة، تحت خيمة وحدة الساحات الإيرانية.
ولذلك وجدت الصهيونية العربية، أنها تعيش الحلم الكبير على الواقع، لما تحقق لها في خيمة الساحات الإيرانية من أرضية، لخدمة المتطلب الأمريكي الصهيوني التاريخي، ولذلك فأول قواعد المعركة الفكرية اليوم، حماية الأرض المباركة وما تبقى من شعبها، وحماية مقاومتها من خندق الخديعة والإبادة الأكبر، فلا نتخلى عن فلسطين ولا عن مقاومتها، ولكن نفتح لها كل الأبواب وندافع عنها، ونعيد ربطها وربط قضيتها بمشروع الشيخ أحمد ياسين، مشروع أمة لا ميدان مشروعٍ طائفي.
وليس الأمر هنا، صبٌ على الجراج ولا الغزل في التبكيت على اجتهادات المقاومة، ولكن في حاجة الأمة الضرورية، في انقاذ ذاتها وإنقاذ فلسطين عبر درب التحرير، تحريرٌ قال عنه سيد المقاومة احمد ياسين إن سقوط الصهيونية فيه، ليس في مقدور الحركة ولا مسؤوليتها الشرعية، ولكن مهمة المقاومة هنا بقاء جذوة الجهاد، ودور المقاومة أن توصل الأمانة إلى الأجيال، وعلى المستوى العاطفي والوجداني، فإن رهان الصهيونية العربية باجتثاث هذه العقيدة، وهم أبله، فلو كانت الإبادة تمنع الاستقلال، لحققتها فرنسا في الجزائر.
لكن هناك حاجة ماسة للخروج من الخطاب الإسلامي الشعبوي، الذي هو اليوم جزء من المشكلة، لا الحل، وإعادة القضية إلى ضمير الأمة الجمعي، وتحريك كل مبادرة وقدرة في الأوساط الأممية لا حصرها في الحركية الحزبية، وتقلبات توجهاتها، بين طهران وغيرها.
واستثمار روح التضامن التي تحرق منصات الزور الصهيوني العربي، في التفاف ضمير الأمة المخلص حول قُداس الشهداء، وهذا القداس، قد يحيط به حشد من الأوباش والمتصهينين العرب، لكن الوقوف عندهم يخدمهم، والمضي في مشروع الأمة الجديد، يهدمهم ويهدم هيكل الإرهاب فوق رؤوسهم.