مهنا الحبيل
أشد إيلاماً من قراءة التحليل السياسي لأزمة أي قُطرٍ عربي، دلائل السقوط في مآله المستقبلي، وأعتقد أن اليمن اليوم في صورة غاية في التعقيد، لتحديد اتجاه مستقبله القومي، وكنتُ قد كتبت قبل عدة أعوام في نداء وجهته لشباب اليمن في ذلك الحين، أن هناك ضرورة لتأسيس ثقافي، يستبق مرحلة ما بعد الحرب، يُحقق للشباب تأطيراً فكرياً يجمع شعث الشباب، وآلام ما بعد فراق الأحبة الذين سقطوا في الحرب، أو الحروب التي جُيّرت، لحساب مصالح الأطراف الأخرى في إيران ودول الخليج العربي.
ولا أزعمُ هنا مطلقاً، القدرة على تحديد مستقبل المشهد اليمني، أكثر من أبنائه المتمكنين من الرصد والتحليل السياسي الواقعي، ولكنني إذ أذكّر بصناعة الأرض الفكرية التي يحتاجها كل وطن، للبدء بالخروج من عنق الزجاجة، والتوجه إلى حيث ضوء نفقٍ في آخر العتمة.
فإن هذا الاستباق في التحرير الفكري لواقع اليمن الأسيف، قد يُساعد في وضع منهجٍ جامعٍ، يُؤسس في ضمير الشباب معنى مشروع الدولة المدنية، التي تتسق مع قيم الشعب المسلم، وعروبته العريقة، وتفهم كيف تُكيف منظومة الدولة والحقوق الدستورية، مع الحياة الاجتماعية القبلية من جهة، وتنجو من تدخلاتها الشرسة والضخمة في تاريخه القديم والحديث من جهة أخرى، وتحقق المعايير المدنية الحقوقية للجميع، شركاء الأرض والمصير بل والأصل الاجتماعي الموحد في الإنسان والعروبة والإسلام.
فهنا نطرح متطلب العبور المرحلي والنسبي نحو الاستقرار السياسي الاجتماعي، وتحويل قدرات الإبداع اليمنية التي رأيناها في الشباب اليمني، في المهجر التركي والغربي، إلى سواعد بناء، من خلال ورش تفكير تجمع أقصى قدر من المختلفين، والذي يتسع فيه الخرق على الرقعة بصورة مضطردة، وخاصة بعد بروز عواصف ضخمة جديدة من الصراع الفكري، بين شباب اليمن، بعضها عن أصل تاريخ التشريع أو ميراث التراث المذهبي، وبعضها على هوية الشعب وعلاقته بين الدين أو تحييده.
فاليمن اليوم لأسباب تخص طرفي الحرب في الرياض وطهران، والموقف الدولي العام، يتوجه لوقف الحرب المركزية، وتعنت الحوثيين في موقفهم، هو لتحصيل قيمة مجزية للنصر العسكري على الحلفاء، وعلى الشرعية التي اُلحقت بالعربة الخلفية للحلفاء، ولم تستقل بسيادتها مطلقاً، وساهمت صراعاتها، ومحسوبيات أضلاعها، في مرونة تسخيرها لمتطلبات كل مرحلة يحتاجها التحالف، ولذلك مسألة تصفية وجود الحكومة الشرعية، وهي الغطاء الأخير، لليمن الجمهوري القومي المستقل، هي مسألة وقت فقط، وآمل أن أكون مخطئاً في ذلك.
ونجاح مسقط في اعلان إنهاء الحرب، يساعده رغبة الرياض المتعاظمة، لوقف تكلفتها الكبيرة، باتفاق تأمين الحدود الجنوبية لها، ولن تكون هناك مساحة للقيادة الشرعية، إلا في رتوش تستحقها المرحلة، قبل أن يُطلب إلزاماً منها اصدار البيان المتمم، لبيان الرئيس المختفي عبد ربه منصور هادي، فتنتهي حكاية الشرعية.
والقول بأن الشرعية قادرة على تعطيل استنزافها الأخير، قد يصح، ولكن ذلك لا يمكن أن يتحقق، دون أن تستقل الشرعية بأرض مستقلة عن الحلفاء، وأن يكون الإتحاد بين أطرافها حقيقياً ولو نسبياً، وهذا لا وجود له.
ومع بروز الصراع السعودي الإماراتي على السطح، فإنه يكتسب أهمية بالغة وخطرة في ذات الوقت، فهو صراع أصبح واقعاً مؤثراً في أكثر من ملف ولكن اليمن هو الملف الأكثر تفاعلاً مع هذا الصراع، ومصدر الصراع يقوم على مصالح العاصمتين لا مصالحهما المشتركة مع اليمن الموحد فدرالياً أو مناطقياً، وهو مشروع كان من الممكن أن يتحقق لو كان عند محور ابوظبي القديم نوايا حسنة، وهو المحور الذي انهار بعد انتهاء الأزمة الخليجية.
إن صراع أبو ظبي والرياض، لن يعطل مسار وقف الحرب، ولكنه سيُعقّد الساحة اليمنية بين الجنوب والشمال، وبين الشمال والشمال، وبين الجنوب والجنوب وخاصة مع حضرموت، وهو ما يعني تهيئة مساحة ضخمة، أمام تقدم الحوثيين الى جغرافيا الجنوب، فضلاً عن حسم بقية جيوب الشمال الشرعي في تعز وغيرها.
والتجربة العربية المرة في التعامل مع الأحزاب الطائفية الموالية لإيران، في العراق ولبنان، تؤكد أن خروج الحوثي الى فضاء عربي يمني مستقل، يحتضن الأطراف بعد انتصاره عسكرياً، هو وهم كبير، فطبيعة الذات المؤدلجة للولاء لإيران، تُحوّل الوطن والقومية والإنسان، إلى أدوات تحت عباءة ولي الفقيه ووكيله المحلي، نقول ذلك وإن كنا نرجو خلافه.
إن اندفاع الرياض لتحقيق اتفاقات ثنائية مع ايران، في مقابل ما حققته بقية الدول الخليجية، وبالذات خطة الإمارات الأخيرة في تعزيز علاقة أبو ظبي بطهران، والعودة إلى السوق الإيراني الإماراتي المشترك، ليكون قاعدة التفاهم، وهو ما حفّز السعوديين، إضافة إلى صراع المركز الإقليمي الدولي للاقتصاد في الخليج العربي بين دبي والرياض، كلها ملفات سترتد على اليمن كحديقة صراع خلفي.
يضاف إلى ذلك ملف التسويات السعودية مع طهران وخاصة في سوريا، وكلها مدارات حققت فيها طهران انتصاراً سياسياً، وبالذات بالعودة العربية الى تأهيل النظام الإرهابي في دمشق، والذي تقود ملفه السعودية، فماذا سيتبقى هنا للمساحة اليمنية مع الرياض، ما هو موقع الحجر اليمني في مدرج اللعبة الكبير، واليمن روح وطن عربي، اكبر من ان يسقط، لكنه يدفع لأتون حزن عميق، لا يتوقف دمعه.
ولذلك فالسؤال الكبير كيف سيواجه التيار الشبابي الجديد، الذي يفترض أن يولد حضوره، بعد سقوط هذه الهياكل، وكيف يُعِد لمرحلة الكفاح الفكري والسياسي، وهل سيبقى الأمرُ مرتهناً، بالحروب القبلية التي قد تشتعل في الشمال، والتي تغذيها الأطراف الخارجية لتغطية ما بعد الحرب المركزية.
أم أن المساحات التي ستُخلق ما بعد الحرب، ووقف الحرب والعسكرة للمجتمع، وهو الجانب الإيجابي المشرق، ستفتح حينها قواعد التقاطعات، لخلق فضاء حراك يجمع شتات اليمن الممزق، الذي أسقطه الحلفاء والأعداء معاً.