Categories: مواد فكرية

بين الذات الاسرائيلية والإنسان اليهودي

مهنا الحبيل

8/8/2023

تتفحص بعض كتابات إدوارد سعيد ضيقَ أُفق الدراسات الأكاديمية (الغربية) أو ما يمكن ان نسمّيه بالدفاع ضيّق الأفق ضد التعددية الثقافية: وهذا ما يُمثل في التحليل النفسي شكلاً من انشطار الأنا (الغربية) حيث تقطن الذاتُ مسرورة في واحدةٍ من شذرات ذاتها (..).

كريستوفر بالاس

أحدثت علاقة إدوارد سعيد مع الموسيقار الإسرائيلي دانيال بارنبويم، وتنظيم أوركسترا السلام معاً، صدمةً كبيرة في جدل كفاحه الفكري ومواجهته للمشروع الصهيوني، وهي الفكرة التي وُلدت عبرها مشروع الدولة (إسرائيل) بحسب سعيد ووائل حلاق وحلفائهم من اليسار الفلسفي، بما فيهم باحثين يهود، وكان هذا الميلاد في ذات السياق الذي ناضل فيه سعيد، هو نتيجة لتلقيح صناعي غير مشروع في الأرض العربية، قامت به ورعته المركزية الغربية الإنسانوية، المضطهدة لإنسان الشرق والمخضعة لجغرافيته بحسب مصالح الكولونيالية العالمية.

       وبالتالي كيف يسوغ لسعيد ذو العلاقات الشخصية المتعددة مع زملائه اليهود، في نيويورك وخارج الولايات المتحدة الأمريكية الخضوع، لهذه الصورة، في تقديم بارنبويم شريكاً اسرائيلياً، لا موسيقار يهودياً من أصلٍ ارجنتيني، والذي يُطالع تغطية الإعلام الغربي حينها، يجد التركيز على بانبويم في اسرائيليته، وليس في يهوديته، وبالتالي كانت الحفلات والأوركسترا المشتركة، تروج كصورةً من صور التطبيع، فهل كان سعيد يرغب في تقديم هذا المشهد؟

       إن العودة لذات محاضرته في متحف فرويد في لندن، تعطينا دلالةً مهمة، وخاصة بأن سعيد كان يترقب الأيام الأخيرة لحياته، ولا يدري متى يرحل، وهنا يضغطُ على الإنسان المندمج في حياته الفكرية وعقيدته الإنسانية، زخمٌ هائل يجمع بين المعاناة الشخصية، وبالذات في مراحل الألم الأخيرة، وبين موقع هذه الأفكار من الإنسان الآخر ذاته.

       وسعيد نفسه فجّر هذا المكنون في الطرف الآخر، أي اليهودي غير الصهيوني، وذلك في الانفعال المنضبط الذي عبّرت به جاكلين روز حدود المحاضرة، في فرويد إلى جدلها في ذات هذا الإنسان اليهودي، ولعل سعيد كان يدرك عواصف الوجدان في هذا الطرف المقابل، وانه أيضا أي اليهودي الآخر، ينتظر من الطريق الثالث، انعطافة تقوده إلى اعتدال يشبع رضاه، أمام آلة التجريف الصهيونية، المدعومة بكل قوة بالرأسمالية الامريكية.

       يجبُ هنا أيضاً أن نشير إلى مجال تفاعل الإنسان في عالم العلاقات، مع الشراكة الوجودية على هذه الأرض، وهي مسألة حررها القرآن الكريم حين أعطى مساحة العلاقة الإنسانية استقلالها، ولم يكن لسعيد أن يُشير لأي معادلة إسلامية بهذا الشأن، بسبب ما حررناه سابقاً في كتاب (جدلٌ ثالث)، من ضعفه الشديد في المعرفة الإسلامية، وفقدان الحماسة لمراجعتها، والذي كان يُشير لجهل رغبوي أحياناً في حياة سعيد، وتمنّع عن الدخول في معارج الفلسفة الأخلاقية، ولذلك نجح حلاق في إدانته.

       لكن كل ذلك لا يعني أن سعيد سعى لتقديم صورة مختلفة عن عقيدته، وإن كانت مراقبة السلطات الامريكية الأمنية، الذي وُثّق في حياته من خلال تتبع ال إف بي آي لاتصالاته، كان يضغط على سعيد ايضاً، في حين كان يُريد أن يقول لهم ولغيرهم، من جمهوره الغربي العريض وخاصةً في الرواق الأكاديمي، إن معركتي مع إسرائيل التي تحارصونها هي معركة مبدأ إنساني وأخلاقي، وليس مواجهة مع الإنسان الآخر.

       لكن الذات الإسرائيلية هنا، محملةٌ من حيث المشاركة الميكانيكية، في ترسيخ هذا الوجود، وليس في حق هذا الإنسان اليهودي، وعليه فإن رحلة التطبيع الضخمة التي تعبر اليوم، إلى الوطن العربي بكل مؤسسات دولها من الخليج إلى المحيط، تطرح الشراكة مع إسرائيل وتل ابيب، والعقيدة الصهيونية ذاتها، وليس الإنسان اليهودي المنتمي إلى شراكة العالم الوجودي، وإنسانه أينما كان.

       إنه مدخلٌ محرجٌ بالفعل، ولا يترتب على موقف رفض خدمة الانفصالية الإسرائيلية، تشريعُ المسَّ بالأسر المدنية المنعزلة عن الصراع العسكري وآلته، حتى في الأرض المحتلة، غير أن هذا الاستدعاء الضخم، يصبُ في مصلحة المستعمر وظلم الشعب المحتل البريء، وهو هنا فلسطين وشعبها، وهذا بالضبط ما نحتَهُ بكل قوة المفكر الماركسي فرانز فانون، وهو من استدعاه سعيد في محاضرته، وعليه فإن مساحة سعيد هنا، لا يمكن أن ننظر إليها في إطار خدمة ذلك التوظيف، دون زعم حصانته من الأخطاء.

       غير أن سعيد وخاصة منذ اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان، كانت فرص الحضور والتبجيل الغربي مفتوحة له، بل ووضع مكانته فوق شروط الأكاديمية الغربية وانحيازها، وكانت ستشكل له ذلك الزمن مقعداً عالمياً لا مثيل له، وستصطف وسائل الإعلام الغربي للتصفيق له.

 ولكن روح سعيد حتى في هذه المحاضرة الأخيرة في متحف فرويد، ظلت تدور على عقيدتها، فبقدر ما رفع فرويد في مسألة موسى والتوحيد، بقدر ما فضح فيه ذلك التوله لخدمة العالم الكولونيالي لينجو انسانه اليهودي، لا باسم إسرائيل ذالك الوقت، ولكن باسم المركزية التي صنعتها.

       وفي هذا يقول سعيد: (بأن من الصحيح القول إن نظرة فرويد الثقافية مطبوعة بالمركزية الأوروبية – ولماذا لا يكون كذلك؟ (..) لأن عالمه لم يكن تعرض لعوامل (تأثيرات) معارك التحرر من الاستعمار). وهذه بالضبط في الاتجاه المعاكس لفلسفة سعيد وغيره من نقاد الاستشراق والكولونيالية الغربية، الذي أشار له كريستوفر بالاس وعززه في محاضرته.

       وبالتالي هنا نلتقط الخيط المهم لفهم موقف سعيد، إن وُفقنا لذلك، وهي أنهُ في رحلته المفتوحة عالمياً، يصعب عليه في بعض الأحيان، أن يفصل الذات الإسرائيلية عن الإنسان اليهودي الذي ينفتح معه، بطبيعة الشراكة الوجودية لذات الإنسان، أو التوافق في روح الشراكة الفنية أو الأدبية او النقدية، وبالذات في حالة الحس الموسيقي المرهف، وهي حسابات دقيقة، يواجهها المفكّر والفيلسوف ومنظومة نقده تحتاج رؤية عميقة، تعتذر له أو تنصفه حينَ تُدينه.

mohana63

Recent Posts

العقل المعرفي..الفارق الفلسفي الإسلامي

العقل المعرفي.. الفارق الفلسفي الإسلامي مهنا الحبيل في رحلة الجدل الفلسفي المعاصر، تختط قواعد المقارنة…

4 أيام ago

أفق السلام الكردي_التركي

أفق السلام الكردي-التركي مهنا الحبيل أياً كانت القراءات المختلفة، لموقف دولة بهتشلي القائد القومي التركي…

4 أيام ago

فرض الديمقراطية الدموية

فرض الديمقراطية الدموية مهنا الحبيل يفكك روسو التحديات التي تواجهها السلطة الاشتراعية، وخاصة كونها القوة…

4 أيام ago

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية

أصحاب الظرف الخاص في مجتمعاتنا العربية مهنا الحبيل هل توقفت يوماً عند ذلك الطفل، الذي…

4 أيام ago

رسالة للزواج الجديد

رسالة للزواج الجديد مهنا الحبيل يبدو عنوان البرنامج الوقائي، لوازرة التنمية الاجتماعية في قطر، مهم…

4 أيام ago

الديمقراطية التي تحمي السيادة

الديمقراطية التي تحمي السيادة مهنا الحبيل يعرضُ روسو لطبائع الشعوب وما يُلائمهم من حكومات، كسلطة…

4 أيام ago