بين الفلسفة الأخلاقية العلمانية والإسلامية
مهنا الحبيل
في البعد الإسلامي وتفسيره لوحدة النبوات، لا يقتصر تاريخ الوجود البشري لديهم، ببلاغ الدين لأهل الأرض، لكنه يحمل قصةً كاملةً كمرجع لتاريخ وجودهم، وقواعد تأسيسية عليا، تشير بقوة وتكرار لقدسية التدبر والتفكر والتعقل، بمعنى تحريك العقل الروحي في تأملات رحلة الذات البشرية في العالم، وهو ما يغيبُ عن الفلسفة الأخلاقية العلمانية. هذا العقل هو العقل البسيط الذي يتم إدراك الأسماء عبره، (الأجسام والسلوك والطبائع) في حين يأتي العقل المركب المستنبط حين يتعمق التدبر والتأمل وهو ما حررناه سابقاً، في تقرير العقل المعرفي، في الإسلام وتميزه به، عقل بسيط مفطور على الإدراك، وعقل معرفي يتوسع بالتفكر وتفسير الأحداث والأجرام من حوله، وهنا يتحول الجدل الحضاري لإنقاذ العالم، إلى استدعاء تدبر العقل المعرفي في أحوال أهل الأرض، وفي مراجعة ارث العقل المادي، فيُفعّل فكر الإنسان بعقل الروح، ثم بعقل المعرفة، ومن ثم يراجع هذا التاريخ المدمر للحياة البشرية، منذ سيطرة العقل المادي التجريبي. والنقدُ اليوم في تغييب دلائل الروح، يتداوله رواق الفلسفة الأخلاقية العلمانية، والعلمانية المقصودة هنا هي العازلة كلياً لشواهد وجود الخالق، وتدبير الخلق، أي العلمانية المطلقة، لكنها تُقِّرُ بأثر المرجع الروحي، أو الميتافيزيقيا، في حركة الوجود، وفي أثر إسقاطها في انحطاط العالم الأخير. فتشترك مع الفلسفة الأخلاقية الإسلامية، في البحث لتحرير الطريق الآخر للمعرفة، وبعضها يُدين المآل الأخير، لدور الحداثة والأكاديمية الغريبة لفلسفة المادوية المطلقة، والتي شكّلت القاعدة الكبيرة المؤثرة على سياسات المركز الغربي، واستباحته للحق الآدمي، وحقوق الشعوب الأخرى. هنا يتم تحرير العقل من قمع المادوية الشرس، غير المبرر علمياً والساقط كلياُ في منظومة الأخلاق، غير أن الفلسفة الأخلاقية الوجودية (العلمانية)، تفتقد الى وضوح المرجع المصدري، لعدم ايمانها بالموجِد، فيما تتصل المعرفة والنقض الأخلاقي في الفلسفة الإسلامية، بقواعد متماسكة تُشخّص عبرها، أزمة العالم الحديث بأدوات أكثر قوة وأشد عمقاً، والأهم أنها تستقي رؤيتها بحرية مركزية تتفق مع فطرتها، ومع دلائل الكون من حولها.إن هذا الفارق يعتمد على رؤية كونية محررة في قصة الوجود، في القرآن الكريم، هُجرت الدراسات حولها وخُنقت مناهج البحث فيها، عبر التخلف والعجز الذاتي في الشرق، أو عبر غزوات الغرب المهلكة، التي عطلت قدرات النهوض العلمي، لصناعة تقدم أخلاقي في الشرق يمد يديه لبقية العالم لإنقاذه، لاحظ هنا مسألة إتلاف المواد الغذائية والسلع، التي تمارس في الأسواق الدولية، تحت مقصلة التبرير للتفوق الرأسمالي، في حين يفقد الناس أرواحهم وأرزاقهم، بسبب هذا الإخلال بالتوازن الغني، الذي جعله الله متفاعلاً في خيرات الأرض وثمرها.الرزق في التناظر الفلسفي ولكن هذا الرزق وما تحييه السماء الذي ورد في الآية الكريمة، (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) وعليه أقسم الله عز وجل، يتساءل البعض فيه عن موت الناس جوعاً في هذا العالم إلى اليوم، كيف يكون ذالك وقد وعد الله بأن هذه الأرض فيها ما يكفي لأرزاق البشرية كلها؟إن الجواب هنا هو أن الله قد أقام هذا العالم على ناموس، فيه مساحة تفاعل منوطة بأهل الأرض، ولذلك قال في آية أخرى (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) فهنا تحصيل الرزق يحتاج إلى السعي، وهو سعي بين الغريزة والرغبة، بمعنى أن هناك من يكتفي فيه بسعي قليل، ومع ذالك يجد ما يكفيه من رزق، وهناك من يسعى في الأرض ويتوسع، فيجد فيها مراغماً كثيراً وسعة، ويزداد رزقه بين الخلق.حتى لو جدبت الأرض على الراعي البسيط، فإن نزوحه إلى مواضع الماء يتداركه حتى يصل إلى المنابع، ثم تغاث أرضه وتُمطَر، هكذا هي حيوية العلاقة بين الخلق والناموس، أي نظام الله في حركة البشرية ومدافعتها، لكن ماذا إذا حُبس السعي بقوة بشرية، أو حوصر إنسان أو سجن دون طعام وشراب، هل سيدخل له الرزق؟ الأصل أنه قد يهلك، أو يُصاب حتى يمرض، فلم يجعل الله خرقاً العادات نظاماً، وإن حصل في بعض الحالات استثناءً، لأن هذا الجرم الذي مورس عليه، قد أوجب الله على الناس دفعه، ففي شريعة قرآنه، قرر لهم التعارف لتحقيق المصالح بينهم، بغض النظر عن دينهم ومعتقدهم:يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.ولكن فطرة القوة التي جعلها الله في أيديهم لحراثة الزرع، واستخلاف الأرض، حين تتحول إلى أداة قهر أو قتل فهي معصية كبرى، يحاسب الناس عليها يوم الدين، ليس للآدميين وحسب، ولكن حتى بحق الحيوان في شريعة الرحمن.
