بين المثقف والسلطة.. تجربة شكيب أرسلان
مهنا الحبيل
ركز الأمير شكيب أرسلان في مقدمة كتابه المعنون بالسيرة الذاتية، على عرض موسع لموقفه من قضايا الإصلاح والديمقراطية، والحملة التي استهدفته في لبنان من القوميين المسيحيين وغيرهم، لإصراره على رفض أي تعاون مع باريس ولندن ضد الدولة العثمانية، والتمسك بمحاولة إصلاح وضع السلطنة البائس عبر الجامعة الإسلامية والإصلاحيين الدستوريين الأتراك في الأستانة حينها.
أودع الأمير شكيب كتابه مكتبة القدس الشريف، وأوصى بنشره بعد وفاته، كبلاغ مبدئي من أمير البيان يؤكد حرصه على قضية خدمة المبدأ الثقافي العربي، لا الانتصار لشخصيته، حيث قدم لها أدلة عديدة على جهوده الواسعة داخليا وخارجيا للحفاظ على الرابطة الإسلامية للشرق، وصناعة فكر الإصلاح المدني من خلاله لا عبر إسقاطه، فضلا عن سجله في دعم المقاومات الإسلامية في ليبيا والقوقاز ذلك الحين.
وأول ما يتوثب له القارئ في هذا الكتاب المهم، هو واقع السلطنة العثمانية المنهار ليس من خلال التآمر العالمي عليها، لإسقاط الشرق واقتسام ثروته وحسب، ولكن من قوة بأس الحالة المرَضية التي تمكنت من مؤسسات السلطنة، وعززت غياب الشفافية.
“أودع الأمير شكيب كتاب السيرة الذاتية مكتبة القدس الشريف، وأوصى بنشره بعد وفاته، كبلاغ مبدئي من أمير البيان يؤكد حرصه على قضية خدمة المبدأ الثقافي العربي، لا الانتصار لشخصيته، حيث قدم لها أدلة عديدة على جهوده الواسعة داخليا وخارجيا للحفاظ على الرابطة الإسلامية للشرق، وصناعة فكر الإصلاح المدني”
وظلت المركزية الإدارية في الأستانة معيقة للتحول الدستوري، في ذات الوقت الذي يَفعل باسمها ولاة ومتصرفون وشخصيات كبرى، وهي لا تعلم تماما ماهي خلفية البيئة التي يصدر فيها القرار.
وهنا الشهادة صادرة من أبرز شخصيات الولاء للدولة العثمانية ووحدتها أمام الهجوم الأجنبي عليها، فحالة الفساد ورفض الإصلاح الذي تم التعاقب عليه، من عدد من السلاطين، فاقم الوضع أمام السلطان عبد الحميد، الذي أخطأ في ظنه أنه سيوقف انهيار الدولة ثم يصلح وضعها.
فيما كان الإصلاحيون الدستوريون الموالون للأستانة، يسعون لإقناعه بالبدء المبكر في عملية الإصلاح الدستوري والحداثة الإدارية التي تتفق مع روح الشريعة ومقاصدها، لكن باءت محاولاتهم بالفشل، وعُزل السلطان الذي حمى فلسطين، وأخلص لأمته.. أسقطته الشكوك من الإصلاحيين، وميراث الخلل الكبير في نظام التفكير السياسي للسلاطين.
إن هذه الرواية الموثقة المتفقة مع شهادات عديدة، تشرح لماذا وقف الإسلاميون التنويريون الأوائل، مع إصلاح الدولة العثمانية، وعتبوا على السلطان عبد الحميد، ولكن بقوا مستقلين عن أي حراك بريطاني وفرنسي، استقطب المثقفين القوميين.
وهو الاستقطاب الذين استثمر تمردهم أمام تركة تخلف حقيقية في البلدان العربية، جراء ترهل الدولة العثمانية، ولكن موقف الإسلاميين كان يرى أن حركة فرنسا ليست إلا وهما للحرية، وسيعقبها احتلال غربي، هدفه اقتسام الإرث العثماني لا مصلحة الإنساني العربي.
إن هذه المرحلة اليوم، هي من أهم ما يحتاج لوعيه القارئ العربي الذي يستحضر سجل العثمانيين المضيء في حماية بيضة الأمة ومنع استباحة الأرض، ومقارعة الصليبيين، وزوايا أخرى مهمة من عطائهم، لكنه يُغفل كارثة الاستبداد والتخلف، والمركزية القاتلة التي عانا منها الأتراك كما العرب، لكن قرب تركيا من عواصم أوروبا، حقق لها مدخلا حداثيا شجعه كل صدرٍ أعظم ووزرائه، لمنافسة الغرب ولو نسبيا، وغاب ذلك عن الأرض العربية.
إن صناعة الثقافة العربية اليوم ببعدها الإسلامي بحاجة إلى توازن دقيق للغاية في فهم أين نجحت السلطنة العثمانية وأين أخفقت، وأين يخرج التثقيف الدستوري والإصلاحي عن حفلات الصخب في التمجيد المطلق، والذي لا يُلغي حقوق أي عهود تاريخية، لكن لا يزكّيها بالمطلق ولا ينقض حقها، ويراعي الظرف الزمني الذي مرت به، كالحصار أو دور تراتبية التطور المدني الحقوقي وتاريخيته.
لقد أوضح الأمير شكيب موقفه في ثلاثة مسارات رئيسية، لا تزال دروسها مؤثرة جدا، في وعي الحياة المعاصرة والكفاح الثقافي:
1- جرائم الإعدام والبطش التي مورست باسم الدولة العثمانية، وقد ضرب مثالا بجرائم جمال باشا السفاح في الشام، وكان تقدير الأمير شكيب أنها جرائم كبرى لا مساحة للتغاضي عنها ولا تأويلها، وإنما كان يردُّ على موقفه منها بمراسلاته الشخصية للأستانة ضد هذه الجرائم، وهي في تقديري نموذج لما وقع في بلدان أخرى.
وكان الأمير يشير إلى شخصيات مختلفة في الأستانة كأنور باشا وزير الحربية وغيره، يراهم نخبة غيّبت عن الشأن العربي، في مقابل مجرمين كجمال باشا، وإن كان ذلك لا يُسقط مسؤولية الأستانة عنهم.
“استعرض الأمير شكيب تاريخ صعود المطالب الإصلاحية وشخصياتها، وكيف تفاقمت الأمور مستغلة هزيمة السلطنة في الحرب العالمية الأولى التي يعتقد الكثيرون أن دخولها كان سببا قاتلا للسلطنة العثمانية، لكنه أيضا أوضح ما الذي كان من الممكن فعله، ومساهماته الشخصية العديدة لتطوير الدولة مدنيا ودستوريا”
2- أما البعد الثاني في طرح الأمير، فقد كان في قضية انخراط عدد من مسيحيي لبنان وقوميين آخرين في منظومات خاضعة كليا للإنجليز والفرنسيين، ورغم تحفظه على جناية التعميم على كل مثقف يستفيد من الرواق الثقافي الغربي ومؤسساته، فإنه تحدث بوضوح عن أن كتلة من أولئك المثقفين كانوا رهنا لمشروع سياسي أمني خالص ضد الدولة العثمانية التي تصارع مشروع باريس ولندن، وبالتالي مواجهة منظومة السلطات لهم مفهومة لديه بشكل كامل.
3- البعد الثالث حجم الحسرة أمام التجارب المتعددة لإقناع السلطان عبد الحميد، بخطوات إصلاحية دستورية، ولم يخف الأمير ضيقه الشديد من موقف الأستانة، رغم أنه اتهم بالعمالة لها لشدة دفاعه عن الجامعة الإسلامية.
وقد استعرض الأمير شكيب تاريخ صعود المطالب الإصلاحية وشخصياتها، وكيف تفاقمت الأمور مستغلة هزيمة السلطنة في الحرب العالمية الأولى التي يعتقد الكثيرون أن دخولها كان سببا قاتلا للسلطنة العثمانية، ولإعلان سايكس بيكو، لكنه أيضا أوضح ما الذي كان من الممكن فعله، ومساهماته الشخصية العديدة لتطوير الدولة مدنيا ودستوريا، وخدمة أقاليمها بفيدرالية مرنة.
إضافة إلى دور الأمير شكيب في ردع بعض المظالم، ووقوفه في وجه تحويل دروز لبنان إلى شراكة مع المشروع الغربي، وتمسكه بالجامعة الإسلامية لكل أهل الشرق حتى آخر لحظة في حياته؛ قدم الأمير شكيب شخصيته من خلال المثقف شبه الرسمي المتمسك بمبادئه.
وهي المبادئ التي ظلت دليلا على رسالته، في الوقت الذي يطرح فيه مسارا لما يمكن تحقيقه عبر الجسور مع السلطنة دون أن يحاسب على منع الكوارث التي ترتكبها.
يطرح شكيب أرسلان أسئلة تكشف جهوده في النهضة والإصلاح والوحدة الإسلامية من قبيل أين حققت مسيرته نجاحات وأوقفت صدامات بين الأقليات الدينية والدولة العثمانية، وبين العروبيين والأستانة، وكيف استطاع أن يَنفُذ بجسر إلى المقاومة الليبية عبر الجسور الصعبة، ثم يذكّر بما فعله المشروع الغربي، في حريات الإنسان العربي.
إنها وثيقة مهمة وأسئلة مستمرة طرحها الأمير شكيب للمثقف العربي، كلها تشير من جديد إلى مبادئ تصطدم بواقع صعب من تآمر الأجنبي وحماقة الاستبداد السلطوي حتى من الصالحين الطيبين.