مهنا الحبيل
20/11/2022
في العمل الإرهابي الذي استهدف سياح ألمان قرب مسجد السلطان احمد في 2016، كان المؤشر العام للعملية ضمن اتجاه التوحش المعتاد في جماعات الغلو، وحينها أعلنت داعش عن مسؤوليتها، غير أن تفجير تقسيم وشارع الاستقلال الأخير، يُعطي مؤشرات مهمة للغاية في انتخاب الموقع، فهذا المكان تحديداً هو قبلة السياح العرب الرئيسية، والعرب بالدرجة الأولى في هذا الموقع، هم الأكثر تفضيلاً له، وهو عنوان السياحة التركية في الخليج العربي، وربما في غيره.
وتقسيم، تتقاطر عليها وفود السياح المتعددة حتى الغربيين، غير أن شارع الاستقلال، كمركز تسوّق ومقاهي ومطاعم يحتل فيه العرب الصدارة، فهنا الجريمة تستهدف القلب السياحي، وبالتالي الاقتصاد التركي، الذي يسعى لتأمين انطلاقة جديدة، تعوض انخفاض الليرة وتنهض بحركة الحياة المعيشية، التي ترتد على المواطن التركي، المستاء من تأثر اقتصاده وأبناءه، وعليه فإن العملية مشتبكة بأكثر من خط في رسائلها وموظِفِيها.
وإعلان الداخلية التركية، عن أن العملية منظمة من قبل حزب العمال الكردستاني، وأن المرأة المتهمة بتنفيذ الجريمة، تنحدر من منطقة عفرين في سوريا، والإشارة إلى مناطق التدريب لجماعة كردية أخرى، قد تكون حاسمة في هيكل التنفيذ، غير أن غطاء العملية سواءً كان من هذه المجموعات، أو مجموعات الغلو وخاصة داعش، لا يلغي الفاعل المستتر المحرك لتحديد الهدف والعلمية ودافعه.
إن تفاصيل حروب الشرق الأوسط الأخيرة فتحت الباب بقوة، على استثمار قوى الصراع الإقليمي والدولي، في جماعات العنف، والتي تُنشأ أحياناً باسمها مجموعات متطرفة، أو تَخترق البناء الرئيسي لهذه الجماعات، وتُخضع بعض عملياتها لصالح هذه القوى.
وقد يبدو أن هدف منع تركيا من استثمار حالة الحرب في أوروبا، أمراً بعيداً، كموقع وسطي استثمر في بقاء موقفه مع طرفي الصراع، وخاصة أن الناتو بقيادة واشنطن والاتحاد الأوربي، تحتاج موقف أنقرة لصالح كييف، وهو الموقف ذاته الذي ترتقبه موسكو، لكنه يشير إلى أحد خطوط التقاطع التي تعبر منها استراتيجية العملية.
فتحجيم تركيا في أي ولادة للعالم الجديد بعد الحرب، يهم اطرافاً عدة، فضلاً عن قواعد اللعبة داخل تركيا نفسها، ومما يزيد القلق هو أن تدفع العملية في اتجاه يضاعف تأزيم ملف اللاجئين السوريين، وخاصة بعد تطورات الشمال السوري، ومجمل الملف المحتقن، لدى المواطنين الاتراك وتأثيره المتزايد على ملف الانتخابات، وبالتالي يُخشى أن تستخدم هذه العمليات، لتعقيد وضع الأمن القومي التركي، وتحفيز الداخل لتوترات أكبر.
إن هناك مسلمات لدى المراقب العربي المنصف، في مستقبل تركيا، فحتى المصالحات التي أنجزتها الدولة مع الأنظمة الرسمية العربية، وانصرام موسم الموقف من الربيع العربي كلياً، نفهمها في إطار أن انقرة اليوم، تريد أن تخرج من شبكة الملفات العربية، التي ارتدت عليها داخلياً، وخاصة في ظل التواجد الكثيف للاجئين العرب، ثم توتر العلاقات مع المحيط العربي البعيد والقريب.
وأن استقرار تركيا بالنسبة لنا، والحفاظ على أكبر قدر ممكن من المصالح المشتركة، وتجديد السعي نحو المشتركات الإسلامية وقيم الشرق، في لغة وجسور منهجية معتبرة، لا ضجيج عاطفي يذهب صداه بعد كل موسم، هي أهداف ثابتة، وعليه فإن رخاء الدولة واستقرار منظومتها الاقتصادية، والتفاهم الديمقراطي بين أبناء الشعب، هو محل دعم من المراقب العربي.
وهذا يتطلب ضبطاً ومنهجية متوازنة ودقيقة، تراعي فيها تركيا التدرج، وتأمين اللاجئين في مواقع مهيئة لاستقرارهم، كما هو مراعاة ظروف من قطن تركيا لأسباب إنسانية، فهذا التدرج في ضبط علاقات تركيا مع هذه الجاليات التي تسكنها، ومع عمقها العربي الشعبي، يحافظ على روح العلاقة.
ويؤمن مرحلة انتقالية، يمكن لتركيا أن تسعى عبرها، لقاعدة موضوعية صلبة أمام الشعوب والأنظمة، وهي أنظمة متباينة في الحالة العربية، فضلاً عن الطرفين الإقليميين تل أبيب وطهران، حتى مع تعزيز تطبيع العلاقات معهما، فإن لكل حساباته الخاصة التي يتعارض بعضها مع عودة قوية لتركيا.
ولعل من الغريب المشين، أن تتوجه الجامعة العربية وعبر أطراف عديدة منها، إلى تأهيل النظام الإرهابي في دمشق، دون أن تقوم بأدنى درجات المسؤولية، من تحمل وضع اللاجئين على أراضيها، وحمل النظام على فسح مساحة تأمين، وقوة مراقبة دولية لسلامة اللاجئين وعودة الأمن، فضلا عن الضغط عليه لتسوية سياسية شاملة، تعيد بعض الروح لدمشق المذبوحة، فاستبدال واجب الدول العربية، بتحميل الأتراك المسؤولية، بغض النظر عن أسباب المآلات، هو في الحقيقة خطيئة مخزية، وخذلان جديد للشعب السوري.