جدلٌ فلسفي في المتحف البريطاني

مهنا الحبيل

26/2/2019

على الرغم من أن زيارة لندن أخيرا كانت قصيرة، إلّا أن فرصة تخصيص يوم للتجول في المتحف البريطاني مفيدة للغاية، حين تكون الرحلة متأنيةً في قراءة الحشد الذي جمعته إنكلترا اليوم من حضارات العالم وتاريخ آثار هذه الحضارات، يوم كانت الشمس لا تغيب عن بريطانيا العظمى، ليعود مجدّداً السؤال في تميّز لندن، عاصمة للرحلة الثقافية في الكرة الأرضية، عبر قوة التاج الاستعماري واعتقاده القومي والديني معاً.


يحتوي المتحف على تاريخٍ تسلسلي للبشرية، من ضمنه العالم القديم، بحضارتي روما وأثينا، وهناك رسم متسلسلٌ لخرائط أقاليم العالم، وإفراد للفرعونية، والبوذية في الصين والهندوسية، واستعراض لأفريقيا القديمة، وعلاقة الأساطير بكل هذه العهود والمراحل. بمعنى أن المتحف يُركّز على رحلة الفنون والنحت بالدرجة الأولى، وعلاقتها بالأساطير.

ونلاحظ أن مجموع الأفكار التي تتسلسل عن العالم القديم، بما فيه العهدان الروماني واليوناني، الأقرب إلى الجغرافيا التاريخية وانتماء الهوية للغرب، يقوم على ثلاثة أضلاع في معرض المنحوتات، هو الالتجاء إلى الأساطير، وتقديس أضرحة الراحلين من عظماء سياسيين وغيرهم، وصناعة مذاهب تَديُن، تنشغل بها كل منطقة أو إقليم من تاريخ العالم، ومعه تاريخ الصراعات الشرسة، الممتدة من العالم القديم.


والأمر الثالث فكرة التركيز على الدلائل الجنسية، في العلاقات البشرية المختلفة، وإبرازها في هذه الصور، كون أن الغريزة البشرية تتحوّل من ممارسةٍ ضمن إطار الاحتياج الإنساني، والتوالد الفطري والمتعة المشروعة بين الجنسين، بحسب كل دين وعرف، إلى نوعٍ من الفكرة الطقوسية التي تحولها إلى معتقد فلسفيٍّ يحكم حياة الفرد، وليس سلوكاً غريزياً طبيعياً، يمارسه ضمن أدبيات الأسرة.


وقبل تحليل الأفكار الثلاثية هنا، يشار إلى مسألة مهمة، أن المتحف البريطاني الذي يُقدم مادة تاريخية مهمة جداً، بجمعه هذه المنحوتات، لم يُسجل موقفاً واضحاً من ظروف نقل هذه المقتنيات الأثرية، والجدل الذي دار في بلدان الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، من أن نقل بعض هذه المقتنيات لم يكن قانونياً وأنه جرى تحت نفوذ سلطات احتلالٍ بريطانيا عددا من هذه الدول.

وليست الإشارة هنا إلى لزوم التوسع في هذا الأمر، ما دامت المقتنيات في مآلها الحالي، غير أن ذلك لا يلغي أهمية الإشارة إلى حقوق هذه الشعوب، في حين يَعرض المتحف، في شرحه السمعي، احتفال وصول بعض هذه المنحوتات والمومياء إلى بريطانيا، من دون أي خلفية أخلاقية عن شرعية هذا النقل، وهي مسألةٌ مهمةٌ في احترام حقوق الحضارات.


وفي حين أثنى المتحف على دور التبشير المسيحي في أفريقيا، وعلى عقل الفرد في التخلص من الطقوس الأسطورية، وعرض أساطير الرجل الأفريقي الذي اهتدى عقله إلى التنوير بسبب هذا التبشير، نجد هناك مرحلة فراغ ضخمة، لم يعرض فيها تاريخا، ولا إشارة بسيطة، عن علاقة واقع الشرق الأوسط، وميراث العالم القديم والسلوكيات الظالمة والخرافة التي كانت سائدة، وورثت من العهود القديمة، والبنيان الإمبراطوري الضخم، بين فارس والرومان.

وعلاقة ذلك بواقع العرب، ثم تغيّرهم بعد الإسلام، ثم ما هو التحول الأخلاقي الذي جاءت به الرسالة الإسلامية، ثم انتقلت سلماً إلى مواطن عديدة؟ وكيف يمكن أن نفهم، كإطار ثقافي محض، الفرق الذي صنعته الفكرة الإسلامية ورؤيتها التنويرية، أمام الأسطورة والخرافة، على الأقل تسجيلا لهذه المرحلة التي سادت في التاريخ البشري؟
هنا يُبرز لنا المتحف مرحلة مهمة، وطرحاً فكرياً مباشراً بشأن التنوير الغربي والثقافة الجديدة، في القسم المختص برحلة المثقف البريطاني الجديد، والذي بدأ مسيرته منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، حيث بدأ النبلاء دراسة أفكار العالم القديم، ومن ثم باشروا التبشير بالفكر التنويري الحديث، مقدمة للعهد العلمي، والتجربة المدنية الحديثة.

وهنا لا إشكال في فهم هذا المنعطف، ولا في دلالات تأثيره الإيجابي في مسارات حضارية.
ولكن هناك مساحة ضخمة غابت عن التناول الفلسفي لأفكار العالم، ودلائل الرسوم الفنية والثقافية لمعروضات المتحف؛ فقبل القرن الثامن عشر، هل كان هناك تاريخ أفكار؟ هل تشير دلائل الحفريات النحتية والرسوم، في وضع العالم القديم في صور منه، تحت حالة أسطورية خرافية، ثم القفز إلى القرن الثامن عشر، إلى تسلسل تاريخي طبيعي، لمتحف يجمع الفنون بالثقافة، أم أن هناك جسراً قد سقط؟


العالم القديم نفسه، وعبر الدلائل الفنية الثقافية للآثار، وعبر المنقول من نسخ مكتوبة لفلسفات العالم القديم، يُشير أيضاً إلى فكرةٍ كونيةٍ مفادها بأن سيطرة الخرافة وعبادة الفرد، أو القبر أو الرمز الحيواني أو الشهوة الجنسية، تنتشر في حالة الغفلة عن سؤال الروح، والمساواة بين البشر وأنه لا إله بينهم، وعلاقة العقل بفكرة الإيمان بالخالق، وهي مهمةٌ تم توثيقها في العالم الحديث، بأن هذا العالم قد رُصد فيه خطاب رسالات سماوية، وأن هذه الرسالات اشتملت على قيمٍ أخلاقية وفكرية موحدة، وبالتالي هناك قيم مشتركة لهذه الرسالات التي تناوبت على العالم القديم بكل فصوله.


هناك أزمة تاريخية بين العقل والدين، لا تزال تحكم العقل الغربي، من دون أن تُقلص مكانة التبشير، ولم تمنع الغرب من الاحتفال بالتبشير المسيحي الأخير، للبابا والفاتيكان في الخليج العربي، وريادة الفكرة المسيحية التي تدعمها الدولة الحديثة في الغرب، على الرغم من علمانيتها الصارمة، لكنّ هناك بعثاً مستمراً بخصوصية المسيحية، وإعطائها نمطاً إنسانياً مختلفاً، غير أن الفكرة العلمية والتاريخية اليوم، والتي أدركتها الألمانية زيغريد هونكه وغيرها، من الباحثين الغربيين المنصفين، تُشير إلى رسالةٍ أخلاقية وقيمية عند العرب، من خلال الفكرة الإسلامية، حملوا بها حركة تقدم وتنوير عقلي للعالم الغربي الذي بدأ رحلته منذ القرون الوسطى، لا مكان لها مطلقاً في المتحف البريطاني الذي عبر ووقف عند هذه المناطق طويلاً،

لست من أنصار البروباغندا، غير أني لا أظن ذلك سقط سهواً!