مهنا الحبيل

لم تكن الصدمة التي عاشها الشرق المسلم وليدة لحظتها 1924م، حين أعلنت الجمعية الوطنية التركية، وهي المؤسسة البرلمانية الكبرى في تركيا الحديثة قرار الإلغاء ل (الخلافة) العثمانية، والذي ظل يُتداول لمئات السنين في سلطنة العثمانيين، وشكل جزءً مهماً من رحلة الشرق، في رابطته الإسلامية الرمزية أو الفعلية، وفي حماية الحدود السياسية والجغرافية أمام حملات الغرب، ومساحة مهمة أيضاً في مرارات الشرق المسلم. 

هذا الشرق الذي عانى من مساحة صراعات مصلحية أو قومية في داخله، وفي مواجهات العثمانيين مع حصون الغرب المسيحي الصليبي القديم، ثم قيام الغرب الحديث الذي أسقط الأستانة في نهاية الأمر، بعد أن تورطت في الحرب العالمية الأولى، حين تحالف العثمانيين مع المانيا النازية، برجاء أن يشفع لهم ذلك الانتصار المؤمل، في وقف زحف الدول الغربية على أقاليم المسلمين، بل ونفوذهم القوي داخل مؤسسات الدولة العثمانية. 

ورغم أن تلك الصدمة حملت علماء ومفكرين عديدين في الشرق المسلم، إلى الدعوة لإنقاذ رابطة (الخلافة)، ومحاولة إيجاد بديل لها، ولكن الواقع الضعيف لحاضر العالم المسلم، في ذروة تمكّن الغرب وفي تخلف المسلمين المتعدد في الروح الإيمانية الأخلاقية، وفي وسائط النهضة والعمران، أسقط أحلام الجميع. 

ولم تكن مرحلة اعلان إلغاء (الخلافة) مفاجئاً، فلقد كان صعود الحركة القومية التركية في ذروته، وكانت آمال الأتراك الحديثة، التي تمحورت فيما بعد في مشروع مؤسس الجمهورية العلمانية المعاصرة، كمال اتاتورك، يُسمع صداها في كل أرجاء حاضر العالم الإسلامي وفي الغرب، وفي داخل تركيا كان اتاتورك يُنظر له كمنقذ وطني عسكري وسياسي، في حماية وطن قومي للأتراك، خاض في سبيله معارك مركزية قاسية. 

 هي اليوم تكاد تكتسب قداسة خاصة لدى شرائح واسعة من الشعب، فضلا عن الأيدولوجيات الحزبية الأناضولية المتعددة،  ولذلك فهي لا تزل اليوم قائمة في شعاراتها وفي روحها، رغم مرحلة حكم حزب العدالة ذو الجذور الإسلامية عند تأسيسه، ليس بسبب النص الدستوري الذي يحمي قدسية اتاتورك فقط، ولكن لكون هذه القصة التاريخية، يتناقلها الأتراك كركيزة لنجاة وطنهم واستقلاله. 

 ففي حين هيمنت أوروبا على بقية تركة الرجل المريض، كان اتاتورك في العقل التركي المعاصر، هو من عوّض ذلك الفساد والفوضى التي عاشتها الدولة العثمانية في آخر أيامها، وصنع قوة عسكرية انقاذية، أُعلن فيها صمود الوطن التركي المستقل، وتطلعه إلى تتبع الخطوات الاوربية في المدنية العلمانية، التي تحولت إلى راديكالية سياسية صلبة، استهدفت الروح والقيم والشعائر الإسلامية، فالبربوغندا العاطفية التي تُتناقل في الوطن العربي، عن قصة اتاتورك وانه منبوذ شعبياً ولا قيمة له في الوجدان التركي، هي رواية زائفة. 

ولا يشك باحث منصف، بأن مشروع المؤسس للجمهورية الحديثة كمال اتاتورك، كان مناهضاً لقيم أساسية في الإسلام، وأن حركة المقاومة المدنية للشيخ سعيد النورسي وغيره من العلماء، واجهت عنف وتطرف تلك العلمانية الراديكالية، قبل أن ينضم لهم قطاعات من المثقفين ومن الشعب. 

 ثم من ميراث السياسيين الوطنيين، الذين اختلفوا مع الدولة العثمانية وعانوا من صلفها في رفض الإصلاح، لكنهم وبعد أن ضيع السلاطين الفرصة، تبنوا رؤية توازن تسعى لرد الاعتبار للروح الإسلامية بين أجيال تركيا الحديثة. 

ولكن خط الجمهورية الوليدة، وبعد ارث كبير من تضخم الروح القومية، بعضه مبرر وبعضه تحول إلى حالة عنصرية ايدلوجية، كان يبتعد تماماً عن هذه الروح في حين تتطلع الأجيال الجديدة، إلى مدنية أوروبا، والحياة الدستورية السياسية والحقوقية، رغم أن هذا الجانب الغربي في تداول السلطة، لم يبرز في تركيا الحديثة بل كانت محتكرة تحت ايدلوجية الرئيس اتاتورك وحزبه. 

 ولكن هناك عمق آخر في تمسك الإنسان التركي في الوطن القومي الحديث، قد يغيب عن فهم الكثير من العرب، بين خطاب التبتل الموالي للعثمانية الجديدة، وخطاب العداء المطلق للإرث العثماني الشرقي والقومية التركية المناهضة للعرب. 

فلحظة سقوط الأستانة سبقه كفاح تاريخي مدني واسع، شكل فيه الإصلاحيون الدستوريون الأتراك ذوي التوجه الإسلامي، الذي يجمع بين الروح الإسلامية، والتقدم المدني النهضوي ورابطته مع حاضر العالم الإسلامي، قوة ضغط في الأستانة عبر عدة سلاطين، ولكن مجمل هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح، وهذه النخبة من الشخصيات التركية، وجد الإصلاحيون العرب وغيرهم، مساحة تفهم وتعاون معهم في سبيل إنقاذ (الخلافة) ووحدة الأمة الإسلامية، عبر الإصلاح الدستوري والسياسي. 

وعبر تنظيم العلاقات مع أقاليم المسلمين المتعددة، قبل أن تقتطعها قوة أوروبا الزاحفة، وكانت أهم عناصر التمكن الغربي، هو انشغال المركز العثماني بالصراعات مع الغرب، وفرض بقاء الأقاليم من خلال الفرمانات السلطانية، واهمال مؤسسات العدل التشريعي والتنموي، وحقوق الأقاليم العربية وغيرها، والتي كانت تعيش عهود انحطاط وفوضى حقيقية، تتزامن مع ضعف الروح الإيمانية للشباب الغاضب من هذا الواقع، والذي شهد صراعات على أساس قومي وديني، وهو أيضا ينظر للنموذج الغربي الصاعد، كما ينظر له الشباب التركي. 

دُفنت كل مشاريع الإصلاح ودعوات الإنقاذ، وشكلت كلمة السلطان عبد الحميد التاريخية، رمزية مهمة لهذا المآل، حين سعى الإصلاحيون الإسلاميون إلى رسم طريق اصلاح فدرالي، وحيوية في النظام التشريعي العثماني فرد عليهم بقوله، ( ماذا تركتم لتكية آل عثمان) لقد كان منظور الولاء هنا، ليس للرابطة الأممية التي تتبع مقاصد الرسالة في دلالة المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وأن الحكمة والعدالة العُمرية هي طريق النجاة، ولكن للولاء لاسم الزعامة في ذات السلاطين العثمانيين، فانهارت الدول وقُسمت وأُسقط المركز ونُزعت الأقاليم. 

لكن الحكاية هنا لم تنتهي، فتلك العقود التي سبقت الغاء الخلافة وما بعدها، كان التعليم والثقافة التي حجبها العثمانيين عن أقاليم الشرق، تدق أبواب إسطنبول الجديدة، بل وتفتح جامعاتها وتندفع فيها المطابع وصرير الأقلام، ثم وُلدت الجمهورية ووقر في وجدان ذلك الجيل، أن تلك العلوم وفضاء الحريات الغربية التي يسمع صداها، قد حجبها عنهم عهد السلاطين. 

 فاكتسبت الروح المدنية المتولهة فكرة ايدلوجية متناقلة، بأن ذلك السوط أُشهر عليهم باسم الدين، وأن الحرية تعني رفضه، وبالتالي بقي للفكرة الغربية حضورها، لكن ذلك من خلال وطن قومي مستقل كادت أن تُضيّعه السلطنة العثمانية، وترهق الأتراك برابطة الأمم الأخرى. 

حينها تبين بعد فوات الأوان أن مشروع الإصلاح الدستوري السياسي، كان يخلق فكره النهضوي والتقدم بين الأمم ومقارعتها، من خلال الروح الإسلامية والمركز الأخلاقي الإيماني، دون قمع حقوق الناس وحرياتهم، لكن الرسالة لم تصل للجيل فقطع الحبل في وسط الطريق.