مهنا الحبيل

8/2/2022

جدد رحيل أ. جودت سعيد رحمه الله الجدل عن تصنيف المثقف، في داخل دائرة الوعي الإسلامي، أو كتعبير أدق الفهم الديني لمبادئ الإسلام، ونحن إذ نُعزّي أهله ومحبيه نؤكد على مساحة خسارة تهميشه الفكري التي ترتد على المشرق العربي والقطر السوري خصوصاً، الذي لا يزال يعيش آلام المرحلة القاسية، بعد أن أطلق العالم يد النظام الإرهابي في دمشق، مع حلفاءه ولعبة الأصدقاء القذرة، ولا يزال الشعب يلم شعث بأسها في المخيمات وفي أرض الشتات.

وهذه المسالة بالذات دُفع بها في مسرح نعي أو إدانة فكر جودت سعيد، بحكم أنه آمن بخلق مساره الفكري، تحت ميثاق اجتماعي لفهم الحياة الإنسانية في الإسلام، مركزها عقيدة اللاعنف، وخرج عند أول الثورة، في محاولة استدراكية للاحتجاج على قمع النظام، وهو أحد من عاش دورات متعددة للسجن السياسي، كما أن رسالته عند انطلاق الثورة، كانت نذيراً تحذيرياً صرخ به غاندي العرب، من مآلات استخدام السلاح في مواجهة الإرهاب النظامي في سوريا.

وحتى لو قررنا الآن أن مفهوم اللاعنف، يحتاج تحريراً موضعياً، وفِقْهِ واقعٍ أدق، لا يمكن أن نُجمله على كل الموقف الإنساني في مدافعة الشر، وحماية الذات، وبالتالي فالأمر ليس على إطلاقه.

لكن الميثاق الذي آمن به جودت سعيد، وأعلنه قبل قصف قريته واستشهاد أخيه، ثم خروجه للمنفى التركي، والذي واصل بعده بث رسالته، لا يُمكن أن يُعزل عن الواقع الذي آلت إليه التجربة السورية.

وهنا نحن لا نتحدث عن مبادئ الثورة القائمة المستمرة، ولا حلم الكفاح السوري في دولة العدالة والحرية، ولكن عن قضية عسكرة الثورة، إلى أين قادت على الأرض، وما هو واقع الجسم العسكري المتبقي، هل هو يخضع لمبادئ الثورة، أم للأطراف الخارجية المتقاطعة.

وهي في مآل عسكرتها، لم تعتمد على ظهيرها الشعبي، ولم تصل لمستوى لوجستي يصنع لها تقاطعات تسمح لها بالتعامل المستقل مع الداعمين، أو المستثمرين لمصالحهم، فتحدد أين يجب أن تقف مصالح الآخرين، أو وظائفهم مع مصالح الشعب والثورة، وتفرض قراراها عليهم، وبالتالي تمضي في سياق انتصار متدرج، يحمي المدنيين، ويجعلهم أقل الأطراف خسارة، ولكن العكس تماماً هو ما حدث.

ولسنا في طور عرض واقع التشرذم، أو كثافة التوظيف والاستثمار للمشاريع التي أُنشئت باسم الثورة، بغض النظر عن نوايا الناس، فبعضهم قتل في الميدان، ولكن استشهاده لا علاقة له بخطئه الجزئي أو الإستراتيجي، ولا نشكك بفدائية شهداء السلاح المنضبط، ولكن في مآل توجيه مشاريع العمل السياسي والعسكري للثورة، فالسؤال في إعادة الموضوع إلى دائرة مبدأ جودت سعيد، حتى مع من لا يتفق معه بالكامل.

وأستذكر هنا شهادة مباشرة حدثني بها العقيد رياض الأسعد، أحد أبرز قادة الجيش السوري الحر، وهو أنهُ استشعر مبكراً توجه الثورة المسلحة في سوريا، إلى حالة انفلات كبرى، وتمكّنٌ وظيفي خطير من فصائلها، يقود لسقوط الميدان، وارتداد ذلك على المدنيين، وبالتالي تُحوّل العسكرة لجحيم لا نهاية له، إلا بعد الخراب الكبير وأنهار الدماء، وهذا ما وقع بالضبط ولا يشك فيه عاقل.

يقول الأسعد أنهُ توجه لعلماء سوريين بارزين وطلب منهم تحريم عسكرة الثورة، حتى لا تقع سوريا في جهنم الوحل الكبير، وقبل أن يُصادر قرار الثورة، ويُصبح في أيدي الآخرين، وحينها لم يكن الروس قد دخلوا إلى الميدان، إلا أن أولئك العلماء لم يستجيبوا له، ولعل بعضهم أشار لصعوبة تقبل هذا الأمر عند الشباب وخشية ردة فعلهم على المشايخ.

والعقيد الأسعد من أكثر القيادات التي عرفتُها في الساحة الميدانية السورية، التي أخلصت لميدان الثورة، بغض النظر عن الحسابات التي آل إليها الميدان فيما بعد، وآثاره المنهكة على الشعب، والذي استثمرها النظام في جدولة إرهابية تحت تغطية دولية وإقليمية وعربية، بعد أن تحولت وجبات القتل للشعب السوري إلى مسرح صراع وظيفي في لعبة الأمم.

هنا نستدعي بدقة موقف المفكر الإسلامي الراحل جودت سعيد، ونحاول أن نطرح نظريته على الواقع في السؤال الآخر، هل كان للنظام فواتير شرسة ضد المدنيين، حتى قبل حمل السلاح وسوف تستمر جرائمه في توقعات ذلك الزمن، نقول نعم بلا شك..

وقد كان المقياس الذي اُخذ به في ذلك الحين، أن كتائب الجيش السوري الحر، كان يؤمل أن تحمي جموع المتظاهرين نسبياً، وتعمل على توازن يُشجع العسكريين على رفض قتل المتظاهرين، ولكن ذلك لم يحصل خاصة بأن النظام انتبه مبكراً وهو من كانت له يدٌ طولى في التعامل مع المجموعات المتطرفة، بل وصناعة بعضها في العراق وغيره، فضلاً عن الخبرة الإيرانية، والتفويج الخليجي الوظيفي المتقاطع مع مشروع النظام، ثم قلق الأتراك المبكر من الإقليم الكردي وجعل إسقاطه أولويتهم القصوى، ولذلك انتكست كل المسارات، وأصبح السلاح هو مدخل الجميع.

هنا حين نستحضر مبدأ جودت سعيد، يعني أن الأمر بالضرورة كان تجنيب سوريا هذا المآل المروّع، دون أن تفقد الثورة أرضية مبدأها، ولا حاضنها الاجتماعي، ولا يصل شهداؤها لكل هذا العدد، ولا يتهجر 12 مليون مواطن، ومن يحتج على هذا التفكير بالقَدَر، فهو يخالف القاعدة الشرعية المتينة، وهي أن الأصل أن القدر يؤمن به ولا يحتج به، وإنما التعبد هو أن تتخذ كل أسباب النجاة والنصر، ولا تدخر منها شيئاً ولا تتقدم إلى مرحلة صراع صفرية، لو بدت لك شواهد مهمة، أبرزها فوضى السلاح وتعدد أمراءه ومصادر قراره.

لكن الشيخ المفكر الذي وُوجهت دعوته بالرفض، استُخدمت ضده أرضية تكفير ضمني وظني قديماً، وهي حالة لا تخص جودت سعيد ولكنها ضمن أزمات الفكر الإسلامي المعاصر.