حاجة العالم الأخلاقي للمؤلف الهدّام

حاجة العالم الأخلاقي للمؤلف الهدّام

مهنا الحبيل

اختار حلاق رينيه غينون لهدف مركزي لديه، سعى فيه للانفصال عن كامل المؤسِسات الثقافية للقوة في الأكاديمية الغربية، التي أدان تأثر سعيد بها، بحكم أن سعيد في اعتقاده ظل منسجماً مدافعاً، عن الكليات اللبرالية في الغرب، التي ولدت تحت رعايتها مأسسة العلوم الإنسانية الحديثة، رغم أنها تحمل بذور الإنسانوية التي هدم شرعيتها سعيد.

وهذا لا يُقلل من مشروع سعيد التاريخي الذي بعثر (قدسية) دراسات الاستشراق في الأكاديمية الغربية، وقد ناقشتُ حدة موقف حلاق على سعيد سابقا في كتاب (جدل ثالث).

ونحن اليوم نحتاج العبور إلى مؤثرات التفكير والتغيير عند الفلاسفة، غير أنه في حالة حلاق وسعيد وحتى في المتقدمين، خذ مثالاً صراع التهافت بين ابن رشد والغزالي، لا يكفي الحكم على مآل تقدير فلسفتهما من خلال هذا الصراع، فهناك مساحة أخرى من تدفق أفكارهما تشرح حيّز المعرفة الأخير بينهما.

وفي هذه الحالة فإن أي باحث لديه ما يكفي من دقة نقد حلاق لسعيد في تهوينه من الجانب الآخر للمعرفة، وهو روح الإسلام التي اشتغل عليها المشروع الكولونيالي، فسطحية سعيد وتحفظه المبالغ فيه من مجرد الاعتراف بوجود مقابل فلسفي حضاري في هذا الشرق، وهو في نهاية الأمر المعادل الإسلامي، ورؤيته الفلسفية عن الإنسان الأخلاقي، تظهر لك في كل ركن ذي علاقة.

لقد ظل سعيد يسعى للهروب من هذا العمق، ولذلك في هذا المدار كان سعيد يقف عند السطح الذي يسمح له بعدم الاعتراف بمقابل آخر، وأن الأمر كان فقط مرتبطاً بتوحش الأكاديمية الغربية ضد هذا الشرق المضطهد (الضعيف فكرياً).

وكان سعيد يشعر بهذا الفراغ لكنه لم يفتح له عقله المعرفي، وفي حواراته مع ديفيد بارسميان (القلم والسيف)، وهي حوارات ممتدة لقرابة عقد من الزمن، وصلت الى قرب وفاته رغم أنها بدأت 1994، كما يفهم من سياقات الحوارات نفسها، وتزامنها مع جولته الأخيرة في العلاج، ظل سعيد يستشعر هذا الجذب والضغط، وأعلن عنه في قوله بصراحة بأن الإسلام هو الملاذ الأخير للوطنية و(المقاومة) في الشرق المسلم، هذا الاعتراف الأخير من سعيد جاء متأخراً.

إن مفهوم المقاومة كجزء من حق الشعوب والإنسانية الحرة، التي تواطأ على تحريرها حلاق وسعيد، وكانت ركن مهم في التحالف مع الفلسفة اليسارية المقابل للاحتلال الحداثي الامبريالي، وكانت في الحالة الشرقية ذات جذور خاصة مستقلة البنية المعرفية، ومستقلة المصدر، تقدم فيها حلاق وانسحب منها سعيد، هو ركن لا يمكن تحييده في الحكم على المداولة النهائية لفلسفتهما.

ولذلك نحن نحتاج في دراسات ما بعد الكولونيالية الى ما بعد هذا الجدل، لتدخل الفلسفة الأخلاقية الإسلامية الى مسرح معرفي أوسع، تحتاجه الأسرة الإنسانية لعالم أخلاقي مرتجى، ينقذ فرص السلام المأمول لهذا الكوكب.

وهو يعيدنا للحاجة للمؤلف الهدّام، الذي استدل به حلاق على غينون، كونه يهدم الأًصول المطلقة التي بنت عليها الحداثة هيمنتها على المعرفة، ثم أودت بالإنسانية الى قعرها السحيق، فهذا المؤلف المرتجى في عالمنا اليوم هو القوة الفلسفية التي تحمل دفعاً صريحاً لمواجهة الباطل العالمي، والذي اعتمد في منظومة متحدة شاركت فيها قواعد الفلسفة الغربية، وظل النقد هامشياً من داخل هذه النطاقات، فهل غيّر هذا النقد النظام الدولي؟

 وإن كان البأس السياسي لا يقف عند الفلسفة وحواراتها، فماذا عن التبريرات الكبرى التي استدعت هذه الفلسفة وكانت جزءً من الاحتلال الثقافي للأرض!

وعليه فإن تحرير الأرضية التي يولد فيها المؤلف الهدام ضرورة قصوى، للعبور العالمي، لكن هذه المهمة لا تقف عند الهدم فقط، ولكنها مهمة بناء جديد للمعرفة الأخلاقية، تشتبك بالضرورة مع المنجز العالمي في تاريخ الحضارة، وتعيد تنظيمه وفقاً للعدل الأخلاقي وعودة الروح التي أُقصي معناها المركزي في إحياء الضمير العام لشركاء الأرض، وبناء قاعدة تنصف الشعوب من ذاتها، وتنقذهم من حكام العالم الحديث، بعد فواتير ضخمة استنزفت حياة البشرية وأمنها ومعيشتها، وقسّمت العالم تحت رمزية الأمم المتحدة المضللة، الى عالم غني قوي مفوض وعالم فقير مسحوق.

ولقد امتد هذا الفشل الى كل الدول، فالمعايير المادية الشرسة، تظلم المحرومين ومحدودي الدخل، وأداة الإبادة والفوضى التي تخلقها موازين الصراع المقلوب، تفرق بين مقتل فرد واحد تعطيه كامل التغطية الحقوقية والإنسانية، وتتعامي أو تشارك في إبادة شعوب كاملة، كانت فاجعة غزة أحد أدلتها المتوحشة.

 هذه القواعد التي انطلق منها عالم الإبادة صعدت عبر مقدمات فلسفية حررت مفهوم التفوق المزعوم، وشرعنته بقوة التقنية الحديثة في السلاح وفي استبدال الثمر والشجر، باحتلال الكتروني يزيد من معدلات الفقر، ويرفع جشع الأغنياء البرجوازيين.