مهنا الحبيل
في ذروة زمن التوحش نعيش هذه اللحظة من تاريخ الإنسانية، تحت ركام جثامين الضحايا، وحُطام ما تبقى من القيم البشرية، حَسمَ العالمُ المادي جولته، ومذبح غزة القائم، هو خاتمة هذا المسرح في أسوء جولاته التي عرفها العالم الحديث الأخير، وإلا فالقصة مستمرة، فكم رمضان عايشناه وكانت هناك مذابح أخرى في سوريّا، والعراق، ثم في رقعة المسلمين الكبرى، في آسيا الهندية وغيرها، وحين ننظر إلى الأسرة الكونية في عالم الجنوب، سنجد أيضاً أكواماً من الضحايا، وتصفيات دورية، لا تهدأ فيها أفريقيا وغيرها، وكل ذلك يعود لضمان تدفق المصالح المادية لصالح المتصارعين، ورعاتهم الدوليين.
في الركن الآخر من مآسي العالم نجد أن هناك دوراً مركزياً لأخلاق الفرد، فالعلاقات الاجتماعية والشخصية، تغلغلت فيها مبادئ المصالح النفعية المتطرفة، وحتى الأسرة التي جعل الله فيها سور الحماية الأخير للبشرية، لتبقى تحتضن أعضائها، عبر منظومة مشاعر ونزعات في الذات الإنسانية، تحنُّ على بعضها البعض، اليوم تَضرب المادوية الحمقاء في جذورها لتقتلعها، من كل ضمير أخلاقي، يُعطي لأجل الحُب والتضامن، وبقاء القيم الروحية مشرقة في هذا العالم الكئيب، ففأس الحداثة الغربية الأخير يركز على الطفولة والأمومة، ويُرعى من القوة المهيمنة على العالم.
هذا العالم لم تعد الرياضة فيه جزء من الترويح، ولا بنية الأجسام الصحية، ولا وقايتها من الأمراض، ولكنها أضحت سوقاً رأسمالياً صاخباً، تُحرق فيه مليارات الدولارات، لتبقى الإثارة، والهوس والتعصب المجنون، أداة سيولة شرسة، تَسرق ما تبقى من جيوب هذا الفرد العالمي التائه، وأحياناً يُستخدم هذا السوق، لسيرك الاستثمار السياسي الصاخب، في صراعات الدول، لتثبيت الكراسي الدوارة في الحكم.
أمام كل هذا المشهد الكئيب كان رمضان، يَمنح المسلمين، بل وكل من تأمل من البشر فرصة تاريخية دورية، لتحييد القوة المادية في ضمير الفرد، ليرفع رأسه ويُراجع، أين أنا في هذا العالم، ماذا تبقى من روحي؟
والتي اكتشفها أكثر حين الجوع والظمأ، ثم تأتيه مباشرة حكمة الصوم الأخرى، ماذا عن الآخرين في صحاري البأس والفقر، الذين يعيشون في الناحية الأخرى من الحي، أو في الضفة الأخرى من العالم، فيستيقظ الضمير الأخلاقي، ويبدأ في استعادة عقله الرشيد، الذي اعتقلته آلة الحداثة.
ولا يزال عنصري التذكرة قائمين في النفس، رغم كل الحروب المادية على هذه الروح، لكن الجولات الأخيرة، للقوى المادية المحتلة للضمير الإنساني في عالم الرأسمالية، تقدمت وزحفت، وهي اليوم بحكومات محلية، في عالم المسلمين ذاته، تتفنن في نزع كل ما تبقّى من ضمير الأخلاق والروح، وكل مساحة ممكنة يعطف بها الأخ على أخيه الإنسان، والأختُ على أُختها، في سبيل الإحسان، رضى الله فقط، وتقديم الخير للآخر لأجل الخيرية ذاتها، لا العائد المادي.
أصبح يُعد لرمضان من هذه القوى الرسمية المحلية، لهدم مبادئ الإسلام نفسه، فالمواد الإعلامية تتراوح بين التشكيك وبين التسويق لرياح الإباحية الجديدة، فهنا شياطين الإنس تستنفر مناوبتها إذا غابت شياطين الجن، وهنا مسارح صاخبة، تسعى لحجب كل ضوء تلتقطه الروح في آخر النفق، لعلها تُحيي ركني الإيمان الذي تعيش به الفطرة في قلوب العالمين، الضمير الروحي، والإحسان بين الناس أجمعين.
وأُطلقت حملات رصد وتعقب، على المواد التي كان ينتجها بعض المربين، فأُضعفت أو أوقفت، أو غُيّب أصحابها خلف الشمس، والقول أن بعض هذه المنابر كانت تبالغ في قسوة وعظها، وكانت بذاتها تُستثمر من الأطراف السياسية، هو تقييم صحيح، لكن حرب اليوم هي على الضمير الديني نفسه، والتعبد الروحي ذاته، ورغم أن الإسلام في مبادئه العليا، قوة حقوقية ملزمة للفرد والدولة، إلا أن الحرب اليوم لم تعد محصورة، في منابر الحقوق السياسية والاقتصادية للمسلم المعاصر وغيره، ولكنها باتت تضرب في جذر الإيمان الأساس للإسلام.
ولذلك فإن المسؤولية اليوم أضحت فردية، وجماعية لكل أسرة، أن تُعِدّ لذاتها حصناً يحمي موسم الخير، لتصل قطرات الإيمان والأخلاق، وتُسقى الأرواح الظامئة من معين الإسلام الصافي، في تربيته الروحية وفي تعاليمه الأخلاقية، فهي طاقة إيجابية ترتد لصالح الأجيال، وعلاقة الأطفال والأولاد بذويهم، فلا يختفي دوي القرآن في منازلكم، ولا سيرة الرسول الكريم بينكم، صلى الله عليه وسلم.
ودوماً تعقبوا محراب الدموع والخشوع، فهو بركة الله عليكم في أعماركم، وانتبهوا لسلوككم في تفقد الضعفاء وفي حسن أدبكم مع الخلق، وفي صيانة أعراض الناس في ألسنتكم، فإن الله تعبد ارواحنا، لتسمو ولم يتعبدنا لنجوع، فإن الجوع المهلك هو جوع الروح والقيم، وإن الإفلاس الكبير هو إفلاس أخلاقنا، وكل صوم وأنتم إلى الله ورسوله أقرب.