مهنا الحبيل
آخر عهدي بالعاصمة البريطانية كان حزيناً ومربكاً، ففي شهر مارس 2020 ، بدأت عاصفة كوفيد تشتد على الأرض، وكنت متوجهاً لحضور أحد المؤتمرات والمشاركة بورقة عمل فيها، بدأت المطارات تُغلق والحجرُ يُفرض، فتوجهت إلى لندن في طريق عودتي لكندا، وكأنما أحجار الشطرنج تتهاوى، في صورة مهمة تعكس لا وحدة العالم مع الأسف، ولكن قوة الرابط بمركزه الدولي وهو الغرب.
وليس ذلك لأنني أؤمن بنظرية المؤامرة المطلقة، التي تُفسر بها جائحة كوفيد عند البعض حتى اليوم، فالأمرُ له دلائل واقعية في حجم شراسة الوباء في تلك الدورة، لا نزال نذكر من فقدنا فيه من أحبائنا وأصدقائنا رحمهم الله، ولكن لهندسة لعقاقير وتجارتها ومراحل تقويم الوباء، والتي قادها المركز الغربي رغماً عنا.
طُوي الزمن وعدنا من جديد في توقف قصير لبضعة أيام في لندن، المساحة الطبيعية والطقس كانت كعادتها في جاذبية أرض التاج الكبير، لا تغيير بعد رحيل الملكة، سوى لوحة تحية كبرى مررتُ بها في برنامج المشي، تعلن تحيتها لصورة الملك تشارلز بطول الحياة وسعادتها، وحين التفت جيداً إلى واجهة المطعم، اتضح أنه مطعم عربي.
بين جمال الطبيعة والطقس تعود لك أيضاً، ذاكرة ازدحام لندن واندماجها، بين مواطني المستعمرات السابقة، وبين سكانها البيض الإنجليز، أو القادمين من مقاطعاتها الأخرى، سمة الترحيب والود والتجاوب مع السؤال راسخاً بينهم، وقد كان هذا انطباعي القديم، وأن لندن عاصمة الإنجليز الذين يُضرب بهم المثل في البرودة، هي أكثر المدن الغربية وداً وتفاعلاً في تجربتي.
وهناك مشروع من الوزيرة المسؤولة التي تنتمي إلى أسرة مهاجرة، وكذلك رئيس الحكومة الحالي، لدفع المهاجرين الجدد والتضييق عليهم، للخروج إلى ضفة أخرى، أو اقناعهم بتحويلهم إلى رواندا أو دولاً أخرى، وهذا بالطبع لم يشمل قوائم التقديم التي سبقت قانون المشروع، ومع ذلك لا يزال الأمر ضمن دائرة القضاء البريطاني لم يُحسم بعد، هذا القضاء والحقوق القانونية الدستورية، لضمان العدالة مع الإنسان، والوصاية على الهيئة التنفيذية، هو الإرث الراسخ في عملية التحول التاريخي للدولة الغربية، من الحكم الشمولي المطلق إلى الحكم الدستوري والمشاركة الشعبية.
وهو الأمل الغائب التائه عن بلدان الشرق، ذات الضجيج الإسلامي أو القومي، وبالطبع فإن هذا الواقع الحقوقي، الذي يحج له الإنسان الجنوبي، وقد يموت دونه في شاحنات التهريب، ليس ضمن فلسفة أو عقيدة التسامح البريطانية مع مستعمراتها، ولكنهُ قانونٌ صيغ لكي تستقر المجتمعات الغربية وتضمن حقوق انسانها بعد الحروب المروعة، ويحقق للفرد ما يسمو له، أو يعترض عليه عبر إرادته الذاتية.
ولكن بريطانيا لها إرث واسع في أرض الله التي لم تكن تغيب عنها شمسها، كما أن حراك المصانع الاقتصادية، والحاجة للمتخصصين المهنيين من أطباء وغيرهم، باتت تتوسع، كان من المناسب لها أن تحتضن هذا الموزاييك الجميل من خارطة الإنسان في لندن، وهو واحد من أوجه المتعة الشخصية للسياحة بمعناها الإنساني الاجتماعي، وأنت تتنقل في (الأندر جراوند ترام) وتعيش لحظة الألم في انهيارات الشرق المتجددة، والعنصريات المستمرة بل المتطورة.
إذن هذا الأمر جاء في سياق الدولة الواقعية التي شُرّع دستورها في الأصل، لبريطانيا وليس لمستعمراتها، ولكن قوة المرجعية الدستورية شملت الآخرين فتمتع بها الجميع، ولم يُسقَط الإرث البريطاني بخبثه وقسوته السياسية، ولكن السؤال لماذا لا يتعلم الشرق من عدوه في طريق نهضته، هل هي أزمة حكم أم أزمة فكر، هل هو عقل أنظمة فقط، أم عقل مجتمع؟
في بريطانيا وفي دول غربية أخرى لا يزال التدافع مع اليمين العنصري قائماً، ولا تزال تلك المجتمعات، فيها من يدعم الروح المجتمعية المشتركة والنظام القانوني، الذي يكفل كرامة الإنسان، ولكنها تتناقص، كما أن الإرث الهيكلي القديم في ذات الإنسان الغربي يعود عبر أحزاب وخطابات كراهية، ضد المسلمين وغيرهم، وهو دلالة على أن البعد المادي الذي نزع الروح الأخلاقية من الدستور، لم ينجح في بقاء أصل التسامح المحمي بالقانون الإداري الحاسم.
ولكن عاصمة الانجلوساكسون هي الأقوى ممانعة حتى الآن، واتحدث هنا مجتمعياً وشراكة المسؤول من المجتمع المهاجر، في مواقع الدولة، وإن كانت اللعبة لا تزال بأيدي المجتمع القومي الغربي، الذي يُنعت خطأً بالبيض، فاللون لا علاقة له بالمفهوم، ولكنها ثقافة تمكنت وهي أيضا تعود بعنف على أبناء افريقيا، لكن هذا كله لا يزال تحت التدافع منذ الميلاد الدستوري في الغرب، فماذا عن الشرق؟