Categories: مواد فكرية

حلاق وسعيد في حوار التجديد الفلسفي الأخير

حلاق وسعيد في حوار التجديد الفلسفي الأخير

مهنا الحبيل

إن البعد الأخير وهو الأخطر في فهم معوقات دراسات ما بعد الكولونيالية، من حيث تحصيل المعرفة الغائبة، هو التوجه الجديد لبعض تيارات الفلسفة المعتمدة على التراث، في رفض رؤية المعرفة الإسلامية الأخلاقية، بحكم أنها في زعم هذه المنظومة تمثل تقليداً للغرب! والتراث في تعريفنا هنا ليس أصول الشريعة ولا كليات التشريع ولا قطعيات التنزيل، إنما اجتهادات العلماء وتدويناتهم المذهبية، التي تشمل أزمنة الانحطاط الواسعة في تاريخ المسلمين، واعتبارها إطاراً حصريا للنقد الفلسفي أو بديلاً لمنتج الحضارة الغربية.

      انظر هنا حجم التناقض وقصور الرؤية واضطراب المعنى، وجهل أساسيات الفهم التي يقوم عليه تقدير الواقع المعرفي لحركة التجديد الفلسفي الإسلامي الأخير، وبالتالي يتم حرب هذه المنهجية، باستثناء شخصيات عرفت بنقض الحداثة وهي شخصيات كبرى لها كل التقدير، لكن مسار المعرفة لا يقف عندها، وهناك مجهودات واسعة، تحتاج أن يفتح لها المجال للوصول الى المقارنة الحضارية، ودفع الفلسفة التي توحش مشروعها السياسي على العالم الإنساني كله، وأن حركة النهوض   الجديدة في الشرق، لا تزال تحتاج لدعم كبير لتحقيق الإنجاز المعرفي المختلف، فمتى يتم البنيان وخلفه ألف هادم!

ولقد استوقفني في البحث الذي عُرض عليّ في سياق الجدل المعرفي الأخير، القول أن ختام منهجية وائل حلاق هو الدفع باستشراق معدل داخل النطاق، وان هذا كان هدف كتابه قصور الاستشراق، وهذا ليس صحيحاً في تقديرنا، مشكلة حلاق أنه صدّر نقدية سعيد على العنوان الآخر وهو (منهج في نقد العلم الحداثي) وهو هدفه المركزي في الكتاب، وقد أثرت هذه النقطة في مراسلة خاصة معه إضافة لتحرير المسألة في كتابي، وأكد حلاق صحة هذا التقدير وذكره في برنامج المقابلة على قناة الجزيرة.

وكان الحديث عن أن الأقرب للكتاب هو منهج في نقد الحداثة (الاستشراق لإدوارد سعيد نموذجاً)، ونقد حلاق لمركزية الأكاديمية الغربية، وفي سياقها الاستشراق الكولونيالي ليس هامشاً محدوداً، ولكنه كان أقرب الى المؤلف الهدّام لأصول الحداثة، والأهم التشكيك الجذري في مشروعية هيمنتها على الفلسفة المعاصرة.

هناك إشكالية مشتركة بين سعيد وحلاق في المراجعة الواجبة لنهايات فلسفة فوكو، فكليهما عيال عليه في توصيف (الثقافة والقوة الغربية) والتشكيك في عدالة مرجعيتها وتصدير احكام اكاديميتها.

      غير أن فوكو نفسه انتهى إلى مرجعية النزوة (راجع تاريخ الجنسانية) واتصل من جديد بمفرزات القوة الحداثية، في أصل فلسفته عن العقل المطلق، الذي تحركه المادوية الشرسة لا العقل الأخلاقي، وهو سؤال مغيب في حقل الدراسات التي أشار لها الباحث الذي عُرضت علي ورقته.

الجانب الآخر: المشترك الخاطئ بين سعيد وحلاق عن النقد اللازم في تحييد المركزية الماركسية، وتداخلها مع المادوية الشرسة، التي تحكم كلا الفلسفتين اللبرالية والشيوعية، وهو ما تصدى له عبد الوهاب المسيري كطرف ثالث مستقل المرجعية وسبق فيه فيلسوف الأخلاق الكبير طه عبد الرحمن.

وإن بقي مسار المسيري، يحتاج الى استئناف مستقل عن فلسفة الروح الصوفية الجدلية المهمة لعبد الرحمن وحلاق، غير أن المسيري أشمل رؤية من حيث مركزية المعرفة الإسلامية في فقه العمران، المقابل لنهضة المادة في الفلسفة الغربية، لكن الموت لم يمهله رحمه الله لتحرير مشروع التجريد، وهو سؤال مغيب أيضاً في حقل الدراسات الفلسفية الإسلامية المقابلة للحداثة.

إن إشكالية إدراج وائل حلاق ضمن النطاق المركزي للاستشراق إشارةً أو تصريحاً، باعتبار انه مؤلف (معارض) من داخل النطاق لكونه دعا لاستشراق معدل، هو رؤية قاصرة وهذا الحكم صعب جداً، لكننا في المناقشة العقلية لهذا الطرح نذهب الى مسارين:

الأول: هو ما هي مساحة هذا التعديل الذي طرحه حلّاق، هل هو تغيير كلي في نزعة الهدف وفي وموازين المعرفة، وفي استقلالها عن القوة، أم أنهُ تعديل في مساحات النطاق ذاته.

وبالتالي هل حين يولد استشراق جديد يسعى لاحترام فلسفة العالم الجنوبي وخاصة الشرق وُيفتح له أبواب معرفة جدلية، تنقض الكليات الفلسفية الغربية وأثرها السيء على العالم، وتطرح مقابلها الأخلاقي، هل هذا يعني أنهُ ضمن نطاق الاستشراق الرومانتيكي الذي دُمج فيه حلاق؟

لقد استدل حلاق نفسه بصورة المزهرية والمرحاض التي نقلها عن فيلسوف ياباني، يسخر من الرومانتيكية الغربية (راجع قصور الاستشراق).

الثاني:

هو أن تأثر حلاق بالمدرسة الرومانتيكية، لا تحصره فيها، خاصة بعد ثورته على اكاديميات الحداثة، كيف يشترك ماسينيون مع حلاق في هذا النطاق!

لا يمكن أن تُعزل نزعة حلاق وتوجهه نحو الفلسفة الأخلاقية الإسلامية، عن تقويم معنى الاستشراق الجديد، الذي يجب عليه عند غينون وحلاق أن يحترم الآخر، وأبرز مدارس هذا الآخر، هو الفلسفة الأخلاقية الإسلامية، المتباينة عن الاستشراق الرومانتيكي.

mohana63

Recent Posts

السياحة والنظافة والحضارة

السياحة والنظافة والحضارة مهنا الحبيل بدت لي أزمير محطة مهمة لبدأ الرحلة التركية البرية، كان…

6 أيام ago

السياحة الفكرية في تركيا

السياحة الفكرية في تركيا مهنا الحبيل تأخرت رحلتي السياحية بين المدن التركية عشرة أعوام، حيث…

6 أيام ago

الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر

الأخلاق والعقوبة بين برنارد ماندفيل والفاروق عمر مهنا الحبيل يستشكل البعض في توسيع رؤية المقاصد…

6 أيام ago

سؤال الدولة الاسلامي والاستئناف الفكري

سؤال الدولة الإسلامي والاستئناف الفكري مهنا الحبيل وقفنا في إعادة تحرير النموذج الماليزي على سؤال…

6 أيام ago

أبو بكر الصدّيق في عالمنا اليوم

أبو بكر الصديق في عالمنا اليوم مهنا الحبيل إن العودة للحياة الإسلامية الأولى، وخاصة الصدر…

شهر واحد ago

المرجع الأخلاقي للعالم الجديد

المرجع الأخلاقي للعالم الجديد مهنا الحبيل إن المقياس الذي يعكس بدقة، حقيقة الكوارث التي يعيشها…

شهر واحد ago